منذ سنوات طوال والحياة العراقية تفقد الكثير والكثير من معانيها، لكن المنقلب بعد 2003 عمّق فقدان المعاني هذه، ووسع من فجوتها بيننا فخرجت العشرات من المفاهيم والمسميات بما فيها التنظيمات الاجتماعية والمهنية عن مقاصدها وجوهرها الذي سُميت به وتأسست من أجله. نتحدث عن قطاعات ومؤسسات كانت رصينة مثل الكهرباء والصحة والمياه والعدل وسواها فنجد أنها موجودة كهياكل تنظيمية على الورق ووفق الضوابط الادارية، لكننا حين نغـور في المفاصل تلك نجد أن الهوة متسعة بين الهيكل التنظيمي والمُؤدّى الفعلي، إذ ما معنى أن يتأخر المواطن في دفع فواتير الكهرباء المتراكمة عليه منذ 2003وحتى اليوم؟ وكيف ستتصرف دائرة الكهرباء في استحصال مبالغها الكبيرة من المواطن الذي بات يملك الحجة والحجة، وبما يمكنه من التسويف والمماطلة؟
أتحدث عن اتحاد الأدباء والكتاب وأحصي أرقام الهويات الممنوحة (للأعضاء) فلا أقع على رقم معقول، لأنها تتسلسل إلى ما لا نهاية، وأسمع ممن يتحدث عن أكثر من 6000 أديب، ومثل العدد هذا يبلغ عدد الصحفيين والشعراء الشعبيين وأعضاء اتحاد رجال الأعمال وأعضاء غرفة التجارة واتحاد المقاولين، وتتحدث وسائل الإعلام عن أكثر من 10 آلاف منظمة مجتمع مدني. تُرى هل يحق لمن كتب قصيدة في موقع على (الفيس بوك) بالحصول على هوية اتحاد الادباء، وهل يجوز لمن يعمل بوّاباً في نقابة الصحفيين بالحصول على هوية النقابة، وهل يحق لبائع متجول في السوق بحيازة هوية غرفة التجارة؟ وأسأل إذا كنا نمتلك العدد الكبير هذا من منظمات المجتمع المدني، ترى ما الاعمال التي قامت بها؟ وما درجة التطور التي بلغها المجتمع من خلال أعمالها هذه؟
سمعت حديث اثنين في المقهى يقول أحدهما بأنه انتمى لأحد الأحزاب السياسية الدينية، لكنهم، لم يطلبوا منه شيئاً، ولم يثقلوا عليه سوى أن يحضر مرة أو مرتين في الشهر، فيجيبه صاحبه، وما الفائدة من ذلك؟ فيرد الرجل قائلا: (بلكي الله أحصل لي شغله من وراهم). ببلاغة عظيمة، يختصر الرجل المسألة كلها، فهو يفنـد بطريقة بسيطة قانون الأحزاب الذي يتخاصم البرلمانيون على إقراره، ومثل الجملة القصيرة هذه، يقول (أديب) تسلم هوية اتحاد الأدباء حديثاً. وتدخل مفردات غريبة مثل(المنحة المالية، قطعة الأرض، قرض سكن..) على عالم القصيدة والقطعة الموسيقية والرواية واللوحة وغيرها، في مزاحمة بدت لي بعيدة كل البعد عن المنطق! ولكن، هل من منطق ظل لحياتنا يا تـُرى ؟
أُطالع على صفحات (الفيس بوك) أفراح وسعادات الأصدقاء وهم يباركون ويهنئون زملاءهم الذين مُنحوا وما زالوا يمنحون الشهادات العليا في الفنون والمسرح والفنون التشكيلية والآداب ومثلها في العلوم والمجالات الانسانية الأخرى، وبحسب احصائيات للجامعات العراقية فإنها تعاني من زيادة وتضخم في عديد الاساتذة الجامعيين، فأقول: وما الضير في ذلك، فالعلم والتدرج فيها من أجمل ما يكون، وهو مسعى المجتهدين الناجحين لا الكسالى أمثالي. فيجيبني غير واحد من المتربصين بالمشهد قائلا: ولكن، أين المسرح الذي أخذ به هؤلاء شهادات الماجستير والدكتوراه، وأين الموسيقى التي نال بها فلان وفلان شهادته العليا تلك، وأين الثقافة والشعر والرواية والدراما والسينما وووو.. التي بحث المئات من أساتذتنا فيها، وتوصلوا في بحوثهم داخلها الى ما يجعل من حياتنا عامرة بالثقافة والفنون والموسيقى.
ويكرر صاحبي عليَّ قوله: منذ ربع قرن لم تشهد مسارحنا عملاً مسرحيا مميزاً واحداً، ومنذ ربع قرن او أكثر لم تشهد ثقافتنا كشفا أو فتحاً مميزاً واحداً في الشعر القصة والرواية والفنون التشكيلية والموسيقى والغناء، ومثل ذلك نقول عن المشهد في الاقتصاد والتاريخ والتجارة والزراعة... لكن حبل نيل الشهادات العليا لم ينقطع، أما أن تقوم جامعة عراقية بمنح شهادة عليا لباحثة في "الطنافس" فإني أترك القول لكم !
أتركُ القولَ لكمْ ...
[post-views]
نشر في: 12 ديسمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...