كتقديم: ميليشيا الثقافةالشعر، في أحد تعريفاته، التي يقدّمها مجموعة من النقاد، كونه إنشاءً لاحقاً، غايته التعبير عن العلاقة المعقدة القائمة بين الإنسان/الشاعر والعالم. وهي علاقة ذات طبيعة خاصة تختلف، رغم ما فيها من ثوابت، باختلاف الأشخاص والإيقاع الحض
كتقديم: ميليشيا الثقافة
الشعر، في أحد تعريفاته، التي يقدّمها مجموعة من النقاد، كونه إنشاءً لاحقاً، غايته التعبير عن العلاقة المعقدة القائمة بين الإنسان/الشاعر والعالم. وهي علاقة ذات طبيعة خاصة تختلف، رغم ما فيها من ثوابت، باختلاف الأشخاص والإيقاع الحضاري السائد في كل عصر. ولذلك فإن المنهج أو القاعدة الثابتة لا وجود لها في عالم الإبداع الشعري إلا في الإطار العام الثابت.
العلاقة بين الإنسان والعالم، بهذا أبدأ نصي هذا، وأنا ألج عوالم اللغة والشعر، لدى مجموعة الشعراء العراقيين: "ميلشيا الثقافة". إلا أنه قبْل الغوص في ذلك، يتبادر إلينا سؤال، لماذا "الثقافة" وليس "الشعر"، مادام كل أعضاء الميليشيا شعراء؟ ولماذا ميليشيا وليست "جماعة"..؟ لعلي -هنا- أجد جوابا بسيطا، لنتخطى به هذا السؤال: كلمة/مفهوم الثقافة أشمل وأجمع من كلمة الشعر، في الثقافة تضمحل قواعد الكتابة، وضوابطها، أمام المعرفة التي تتضمنها ضمينا، ما يتيح لهؤلاء الشعراء، فضاءً أوسع وأرحب للإشغال، غير محكومين بالمسمى شعر. أما عن الـ"ميليشيا": فهذا المصطلح المرتبط بالجنود وساحات القتال والحرب، إن تتخذه المجموعة اسما لها، فلكونها جاءت مؤمنة بكونها "جنود ثقافة"، سلاحهم ليس الخراطيش أو الرصاص الحي، أو تلك الطائرات التي تفوق سرعة الصوت في القتل، بل سلاحهم الوحيد هو الكلمات.. الكلمات فقط، محشوةً بين قصائدهم.
الشاعر والعالم: الحرب والتشظي
عودة إلى تلك العلاقة بين الإنسان/الشاعر والعالم، التي فتحنا بها تعريفنا للشعر. إن كان الشعر فنا كما يقول عنه سقراط ومن بعده هيغل، فالشاعر بالتالي: فنان.. وكما أسلفنا في دراساتنا السابقة حول مجموعة من الفنانين التشكيليين، أن الغاية من الفن الانتصار على الواقع، بقدر نقله وتصويره، بشكل مباشر، أو سيمولاكري أو تجريدي أو سريالي... فغاية الشاعر والشعر، هي كذلك. الحديث عن هذا الأمر، نابعٌ من الحضور الواضح لمعجم، الموت والحرب، والألم... هذا المعجم الذي يحضر واقعيا بشكل يومي، بالعراق، موطن "مليشيا الثقافة"، يفرض نفسه حضورا داخل قصائدهم.
وإذا كانت تجربة الكتابة عن الحرب، مثالا، كما يقول الناقد العراقي ضياء خيضر، في منجزه "شعر الواقع وشعر الكلمات"، نوعًا من الجدل الحي بين الموضوع الحار وصيغته اللغوية المقترحة، فإن طبيعة الموضوع وحده ليست قادرة دومًا على تقديم النص الشعري الذي يمتلك من الحضور والقوة، ما يشكل معادلا حقيقيًا لعنف الحرب وتجربتها أو تجاربها المختلفة. غير أن الأمر ليس مقصورًا، طبعًا، على الحرب وتجاربها، وإنما يتعداه إلى جوانب أخرى لا بد من الاعتراف فيها بأن الانفصام الذي كثيرًا ما نجده بين "شعر الواقع" و"شعر الكلمات" يجعلنا نسمع جعجعة ولا نرى طحينًا، ونكون شهودًا على مذابح للكلمات والألفاظ من دون أن نحس بوجود خيط واحد من الدم الذي يفجره صدق العاطفة ودّقة الإحساس الموصولين بقدرة حقيقية على الإبداع والخلق..
- الجنودُ الاميركان في الهليكوبتر يرمون المناشير بسواعد موشومة على/نسائنا النائمات فوق السطوح. (كاظم خنجر).
- يتثاقلُ الجسرُ حين تمر عليه سيارات عسكرية./ وقوافل من شخوص باهتة،/ تريد أن تنام في قيظ الظهيرة. (مازن المعموري)
يمكن لشعراء الميليشيا أن يتفقوا في المزج بين شاعرية الواقع وشاعرية الكلمة، إذ أن القصيدة لدى كل واحد منهم، تستوفي شرط انكتابها، داخل دائرة القصيدة الحديثة، من حيث اللغة والتوظيف، والانزياح، والتكثيف، والتشظي، والصورة، والجوهرية والذاتية... إلخ.
إن التشظي، هو ما يمكنني أن أربط به جل، إن لم أقل كل، قصائد وأشعار أعضاء /جنود هذه الميليشيا. التشظي هنا بما معناه تلك الفوضى المنظمة، التي تفتت لتلحم وتهدم لتبني، لا الفوضى المدمرة التي تنمحي معها خصوصية الشعر وتُدْخِله دائرة السرد الهذياني أو القص الحكائي التقريري أو الخواطر السردية المقالية، فهذا إن حدث، كما يقول الكاتب أشرف جمال، فإنما يحدث جزئيا لفقر بعض الشعراء وعدم قدرتهم على توظيف أدواتهم الفنية بشكل احترافي مدروس.. فالتشظي رهان، من بين الرهانات الكثيرة التي تلعب عليها قصائد الشعر الحديث، من حيث ما يحدثه هذا الأسلوب، من خلخلة المفاهيم الثابتة في ذهنية المتلقي، إذ يُحدث بباله دهشة. هذه الدهشة التي على الشاعر الوصول إليها، في اشتغاله حول الثالوث (الله/الطبيعة/الإنسان)، فالاشتغال حول هذا الثالوث واضح جدا بل يمكنني القول، أن المرجع المعتمد من قبل شعراء ميليشيا الثقافة، داخل نصوصهم. فهذا الأسلوب يعتمد بالخصوص على القدرة الجوهرية لدى الشاعر في تأويل الوجود والعالم.
إن حضور الثالوث أعلاه واضح داخل منجزات هؤلاء الشعراء، فالشاعر كاظم خنجر، إن يجعل من "معجم الموت" مرجعه، وطغيان معجم الدم والألم على كتابات محمد كريم، واعتماد أسلوب السرد الشعري من لدن الشاعرين مازن المعموري وعلي ذرب... إلا أننا نقرأ أو نتحسس في قصائدهم هذا الحضور، حضور معجم الإلوهية بالخصوص:
- الله أضحوكة؟/ أم شرطي؟/ أم سكين؟. (كاظم خنجر)
- إلهٌ لا يكبرُ دونَ معنى. (علي ذرب)
الشعر في ساحة الحرب:
بعيدا عن الحديث عن الأساليب الشعرية واللغوية والمعجمية... فما يميّز هذه الميليشيا، هي تلك الفكرة المتجددة التي جاءت بها. فقد اعتدنا على إلقاء الشعر والحضور إلى أمسياته، داخل قاعات مكيّفة، ومغلقة، وأحيانا يكون الشعراء هم أنفسهم الحضور والقارئين. لقد جاءت ميليشيا الثقافة بأعضائها الأربعة (كاظم خنجر، علي ذرب، مازن المعموري، محمد كريم) لتغيّر ذلك النمط الاعتيادي حول قراءة الشعر، وعلاقة الشاعر بفضائه. فمن القراءة في سيارة إسعاف، وداخل حقول الألغام، ووسط الوحل، وأمام المفاعل النووية، وداخل الطائرات الحربية، وسط مقبرة...إلخ. يلقي هؤلاء الشعراء قصائدهم داخل أماكن خطرة، تلك الأماكن التي تكون في الغالب منسجمة ومتطابقة مع مواضيع واشتغالهم على النصوص، ما يجعلنا بالفعل أمام تطابق "شاعرية الواقع" و"شاعرية المكان" و"شارية الكلمات". فقراءة الشعر في مثل هذه الأماكن، من لدن شعراء الميليشيا، ليس غايته التمظهر بمظهر ما خاوٍ أو إشهاري، بل هو تماهٍ عميق مع الشعر والقصائد. فمهمة الشاعر هنا تصير مشابهة لمهمة الجندي، إلا أن الأول يصنع الموت، والثاني يعيد إلى الموتى الحياة داخل صورة من نسج الكلمات.
هكذا تنتصر "ميليشيا الثقافة" في حربها عن الموت والميتافيزيقيا الصانعة له. الميتافيزيقيا المتمثلة في الذات الإنسانية/الواقعية، والذات الغيبية.