لم تكُ وحدك، فقد قابلتك في نهايته الثانية، النهرَ الذي نزلنا لكريه معاً، كانت مسحاتك طويلة، ولم تكن مسحاتي بأقصر منها، لكنك غالبا ما كنت تتعجل دفع الطين بعيداً. أنا أضعف منك، نعم. لكنني مثلك، أحسن الكري، لذا قشطنا الثلج عن وجه الماء، كنا في الأول من كانون الثاني، وفي مثل الأيام هذه، وكانت البصرة برداً وثلجا. ولما جاء مالك النهر ذرع النصف الأول لك، وأنبت القصبة، ثم ذرع النصف الآخر لي فكانت النهاية سائبة. قال ستلتقيان في المنتصف، وأشار بيده الى غصن شجرة الغرب، التي توسط النهر.
أشعلنا سجائرنا من الموقد الذي في الأعلى، عند جذع نخلة يابسة، وتركنا إبريق الشاي أسود يبقبق بين الجمر، كانت رائحته تضوع فيما بيني وبينك، أنت ترمي بالطين على اليمين، وانا أرمي به على الشمال، تكدس طينك عاليا وتكس طيني أعلى بقليل، كان الطين في نصف النهر الذي توليته أكثر، لا عليك فأنا شقيق عضدك وثيابك مثلما أنت شقيق عضدي وثيابي، وأعلم جيداً، مثلما تعلم أنت جيداً. إن كنتَ سبقتني فستهرعُ بمسحاتك لمساعدتي. ولمّا تمسكُ الشمس بعد بياقة السماء. كانت أصواتنا تشدُّ أزر بعضنا، أنت تقول هاك وأنا أقول هاك. نضحك ويعلو رأسينا الطين، ونصمت، فيشتعل الماء حزناً وأسىً.
صرةُ متاعي تتدلى من سعفة، أعلى النخلة، وصرة متاعك في الكرب، بين الليف . العصافير تدور حول صرتينا، هي جائعة ونحن زاهدون. حدثتك عن إبني الذي ذهب إلى النهر ولم يعد، وحدثتني عن زوجتك التي ماتت في المستشفى. وها أنت تبحث بين الأخصاص عن زوجة ثانية، قلت لك إنَّ الآمال معلقاتٌ على حبال الغسيل، وفي بطون الأسرة ما ينضج منها في الليل. فكنت تسرح في الحلم، ذهبت بعيداً، حتى أن مسحاتك سقطت من يدك، ولما تبلغ بعد قصبة المالك التي أنبتها لك. ولكي لا تطويك غمامة حزنك غنيت لك أغنية المبحرين في الفجر، أعلم أنك تحبها، وأعلم كم ستكون سعادتك بسماع صوتي الحزين، فقد غنيتك أكثر من مرة، وكنت تقول لو أنني أملك صوتك لجلست على البحر، أسمع التائهين أغنيات وقوفهم على الرمل، أرشدهم إلى الخلجان والشطآن.
هل جِعنا؟ سألتني. قلتُ لك : أيما والله، أنا جائع، وقد سلبني الطين ما أكلته البارحة، كان عشائي خبزا ولبنا وتمرا، وهل يتعشى أهل أبي الخصيب غير ذلك قلت لي؟ غسلنا أرجلنا حد الكعبين، وحدَّ ما تبلغه ثيابنا غطينا ساقينا. أنا أنزلت صرة متاعي من السعفة، أعلى النخلة، وأنت أخذتها من بين الكرب والليف، هل كان النمل ثالثنا، هل كانت العصافير رابعنا؟ قلت لك: افتح أنت الأول صرة متاعك وقلت لي: أفتح أنت الأول، ثم خمشت صرتي وخمشت صرتك، وعلى سعفة يابسة غبراء اختلط خبزي بخبزك وتمري بتمرك ولبني بلبنك، هل يأكل أهل أبي الخصيب غير ذلك. كانت رائحة الشاي لما تزل تضوع حولنا، والابريق أسود يبقبق بين الجمر، أنا تركت القليل من اللبن في النحيّ . قلتُ لك أريد أن أجعل طعمه الأخير بفمي، فيما أتيت أنت بلسانك على نحيّك كله، أول ما جلسنا. أكنت عطشاناً إلى الحد هذا؟ سألتك مفجوعاً بظمئك هذا. فأنا أدريك وأعلمك وأفتديك.
لم يبق من طين النهر إلا القليل، النصف الذي عندك متساو مع النصف الذي عندي، وحين كنتُ أفاضل بين ما بقي من حصتي منه وبين ما بقي من حصتك، كنت أجدها متساوية. ما تعجلتُ لكي أسبقك، وما تعجلتَ كي تسبقني، نحن قاهران وعظيمان، لم يغلبنا البرد بارتجافه عند الناس، وما هزت عزيمتنا الثلوج. وما الحلفاء والقصب التي اعترضتنا سوى ما تسلينا بها حالقين وقاشطين. في الفجر أخذتَ المِبرد المسنون وشحذت مسحاتي مثلما شحذتَ مسحاتك، صارتا مشعتين، براقتين في الشمس، لذا كان يسيرا علينا كري النهر، ولما بلغنا منتصفه، قدحت مسحاتك بمسحاتي، ورأيت ما تطاير بينهما، هي علامة نصرنا يا أخي. وقبل أن يصعد مؤذن المسجد السطح وينادي بالناس على صلاة الظهر، كنا فتقنا مدخل النهر، من جهته السائبة عندي فتدفق الماء، عارما وقوياً، دخلت الأسماك وتقافزت الضفادع وعامت عيدان القصب والحلفاء اليابسة مسرورة بما تحقق بأيدينا. نحن ننتصر دائما.
احتفار نهر
[post-views]
نشر في: 15 ديسمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...