2-2
القصة التي يرويها الكاتب والصحافي الإيطالي روبرتو سافيانو، في كتابه الجديد الذي حمل عنوان"الضد من الموت"، والذي صدرت ترجمته الألمانية قبل أيام قليلة، تدور أحداثها في أحد الضواحي الشمالية لمدينة نابولي، "المكان الذي أعيش فيه"، كما يقول الراوي. من المحتمل أن يكون المكان ذلك أيضاً هو أحد تلك البلدات الصغيرة، "جيليانو"، "كاسال دي برينسيبه" أو "كاتسيل بولتورنو"، أحد تلك الأماكن التي دارت فيها أحداث كتاب روبيرتو سافيانو السابق. ليس من المصادفة ألا يسمي الكاتب هنا الاماكن بأسمائها. ففي كتابه الجديد لا يتعلق الأمر بكشف وثائقي للأحداث إنما بمحاولة لإقتراب روائي من واقع اجتماعي يتطلب هذا الشكل القصصي هذا القريب من التنوير. فإذا كان روبيرتو سافيانو ركز في كتابه السابق على وصف نظام "الكومورا"، فإنه في كتابه الجديد هذا أراد الاقتراب من الناس الذين يعيشون في داخل هذا النظام، أراد سماع قصصهم، لكي يرويها لنا. وعن طريق الشكل هذا يضع الكاتب الإيطالي الشاب نفسه (يدري أو دون أن يدري) ضمن تقاليد التقاليد الكبيرة للأدب الإيطالي (وبصورة خاصة الأدب السياسي الجديد ما بعد الحرب) ولما عُرف باتجاه الواقعية الجديدة، الذي عرفناه أكثر في بلداننا الناطقة بالعرببية في السينما، بسبب غياب الترجمات عن الإيطالية لكل تلك الروايات التي اشتهرت بهذا الاتجاه، وهي كثيرة.
العدد الأكبر من الجنود الإيطاليين المتطوعين في العمليات العسكرية للجيش الإيطالي في أفغانستان والعراق (حتى فترة قريبة)، ينحدرون من جنوب إيطاليا. أيضاً أغلبية الجنود الذين قُتلوا هنا يأتون من الجنوب. ليس من المبالغة إذن القول "أن جنوب إيطاليا يعيش حربا دائمة دائماً"، كما يعلق الراوي وبحق على قصة ماريا. فقط في شمال إيطاليا "كانت الحرب الأخيرة، هي الحرب العالمية الثانية". في الجنوب، هناك العديد من الحروب الأخيرة، أليس ذلك ما حدث لماريا، العروس الشابة، التي اشترت الحلوى لعرسها، وكان عليها بدل أن تحتفل وتفرح بعرسها، ان تتسلم جثة خطيبها؛ أليس ذلك ما حدث للشاب المرتعب توماسو، العائد من حرب البوسنة والهرسك، الذي يفرغ عدوانيته في ألعاب الفديو في البار؛ أليس ذلك ما يعشيه الشباب الذين عادوا من "الحملة" في أفغانستان أو في البوسنة والهرسيك، الشباب الذين ما يزالون يحملون قلائدهم العسكرية التي تُعرف بهم، والذين يعانون جميعاً آثار تلك الحرب، مرضى حتى في ممارساتهم الجنسية.
هكذا يعرض لنا سافيانو وبمهارة، كيف أن الحرب الداخلية هي الأكثر عرضة للفرجة، كما تتحدث عن هذا الموضوع وبشكل شامل القصة الثانية، "الحلقة". انها قصة "كومورية" تماماً، تقريب من الأقدار الصغيرة الحقيقية. ترويها صحفية قادمة من الشمال، تعتقد أنها تعرف الكثير عن عالم مافيا الكومورا، لدرجة أنها تستطيع التمييز بين المذنبين والأبرياء. أنها تُدرس من قبل الشباب في نابولي، "ما يؤخذ بالحسبان، هو مكان الولادة المسجل في البطاقة الشخصية". الشباب الخمسة الذين يقتلون الوقت في محل لبيع البيزا يعرفون ذلك بشكل جيد: "أنهم يكبرون ويشعرون بشكل غريزي، بأنهم مذنبون، لأنهم يعيشون في هذا المكان".
قصص سافيانو هي قصص تلامس نياط القلب، قصص حزينة تتحدث عن عالم غريب. والسواد، الذي تلبسه ماريا، هو اللون الأساسي لهذا العالم. "في مكان ولادتي تلبس كل صديقات عمتي دائماً الثياب السوداء، لأن هناك دائماً شاب قُتل أو قريب بعيد سقط من سقالة بناء...وإذا لم يكن هناك مأتم، يلبس المرء دائماً الأسود، لأن هناك من سيموت قريباً جداً..".
في قصص مثل هذه ليس من السهل ألا يعتري الإنسان الغضب. أما الأمل في هذا العالم فيبدو دائماً مشروعا فاشلا ليس إلا، أما العيش هنا "في بلدتي هذه"، كما يقول روبيرتو سافيانو، فيعني دائماً أن يكون المرء ضحية، هذا ما يمنح القصص قوتها اللغوية، لكن أيضاً هذا ما يمنح الحقيقة التي تأتي منها القوة، البريق الغامض المغري أبداً بالقص. في سواد عالم روبيرتو سافيانو يجب أن يبقى كل شيء مثلما هو.
نابولي التي تلبس السواد أبداً
[post-views]
نشر في: 15 ديسمبر, 2015: 09:01 م