TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > نابولي التي تلبس السواد أبداً

نابولي التي تلبس السواد أبداً

نشر في: 15 ديسمبر, 2015: 09:01 م

2-2
القصة التي يرويها الكاتب والصحافي الإيطالي روبرتو سافيانو، في كتابه الجديد الذي حمل عنوان"الضد من الموت"، والذي صدرت ترجمته الألمانية قبل أيام قليلة، تدور أحداثها في أحد الضواحي الشمالية لمدينة نابولي، "المكان الذي أعيش فيه"، كما يقول الراوي. من المحتمل أن يكون المكان ذلك أيضاً هو أحد تلك البلدات الصغيرة، "جيليانو"، "كاسال دي برينسيبه" أو "كاتسيل بولتورنو"، أحد تلك الأماكن التي دارت فيها أحداث كتاب روبيرتو سافيانو السابق. ليس من المصادفة ألا يسمي الكاتب هنا الاماكن بأسمائها. ففي كتابه الجديد لا يتعلق الأمر بكشف وثائقي للأحداث إنما بمحاولة لإقتراب روائي من واقع اجتماعي يتطلب هذا الشكل القصصي هذا القريب من التنوير. فإذا كان روبيرتو سافيانو ركز في كتابه السابق على وصف نظام "الكومورا"، فإنه في كتابه الجديد هذا أراد الاقتراب من الناس الذين يعيشون في داخل هذا النظام، أراد سماع قصصهم، لكي يرويها لنا. وعن طريق الشكل هذا يضع الكاتب الإيطالي الشاب نفسه (يدري أو دون أن يدري) ضمن تقاليد التقاليد الكبيرة للأدب الإيطالي (وبصورة خاصة الأدب السياسي الجديد ما بعد الحرب) ولما عُرف باتجاه الواقعية الجديدة، الذي عرفناه أكثر في بلداننا الناطقة بالعرببية في السينما، بسبب غياب الترجمات عن الإيطالية لكل تلك الروايات التي اشتهرت بهذا الاتجاه، وهي كثيرة.
العدد الأكبر من الجنود الإيطاليين المتطوعين في العمليات العسكرية للجيش الإيطالي في أفغانستان والعراق (حتى فترة قريبة)، ينحدرون من جنوب إيطاليا. أيضاً أغلبية الجنود الذين قُتلوا هنا يأتون من الجنوب. ليس من المبالغة إذن القول "أن جنوب إيطاليا يعيش حربا دائمة دائماً"، كما يعلق الراوي وبحق على قصة ماريا. فقط في شمال إيطاليا "كانت الحرب الأخيرة، هي الحرب العالمية الثانية". في الجنوب، هناك العديد من الحروب الأخيرة، أليس ذلك ما حدث لماريا، العروس الشابة، التي اشترت الحلوى لعرسها، وكان عليها بدل أن تحتفل وتفرح بعرسها، ان تتسلم جثة خطيبها؛ أليس ذلك ما حدث للشاب المرتعب توماسو، العائد من حرب البوسنة والهرسك، الذي يفرغ عدوانيته في ألعاب الفديو في البار؛ أليس ذلك ما يعشيه الشباب الذين عادوا من "الحملة" في أفغانستان أو في البوسنة والهرسيك، الشباب الذين ما يزالون يحملون قلائدهم العسكرية التي تُعرف بهم، والذين يعانون جميعاً آثار تلك الحرب، مرضى حتى في ممارساتهم الجنسية.
هكذا يعرض لنا سافيانو وبمهارة، كيف أن الحرب الداخلية هي الأكثر عرضة للفرجة، كما تتحدث عن هذا الموضوع وبشكل شامل القصة الثانية، "الحلقة". انها قصة "كومورية" تماماً، تقريب من الأقدار الصغيرة الحقيقية. ترويها صحفية قادمة من الشمال، تعتقد أنها تعرف الكثير عن عالم مافيا الكومورا، لدرجة أنها تستطيع التمييز بين المذنبين والأبرياء. أنها تُدرس من قبل الشباب في نابولي، "ما يؤخذ بالحسبان، هو مكان الولادة المسجل في البطاقة الشخصية". الشباب الخمسة الذين يقتلون الوقت في محل لبيع البيزا يعرفون ذلك بشكل جيد: "أنهم يكبرون ويشعرون بشكل غريزي، بأنهم مذنبون، لأنهم يعيشون في هذا المكان".
قصص سافيانو هي قصص تلامس نياط القلب، قصص حزينة تتحدث عن عالم غريب. والسواد، الذي تلبسه ماريا، هو اللون الأساسي لهذا العالم. "في مكان ولادتي تلبس كل صديقات عمتي دائماً الثياب السوداء، لأن هناك دائماً شاب قُتل أو قريب بعيد سقط من سقالة بناء...وإذا لم يكن هناك مأتم، يلبس المرء دائماً الأسود، لأن هناك من سيموت قريباً جداً..".
في قصص مثل هذه ليس من السهل ألا يعتري الإنسان الغضب. أما الأمل في هذا العالم فيبدو دائماً مشروعا فاشلا ليس إلا، أما العيش هنا "في بلدتي هذه"، كما يقول روبيرتو سافيانو، فيعني دائماً أن يكون المرء ضحية، هذا ما يمنح القصص قوتها اللغوية، لكن أيضاً هذا ما يمنح الحقيقة التي تأتي منها القوة، البريق الغامض المغري أبداً بالقص. في سواد عالم روبيرتو سافيانو يجب أن يبقى كل شيء مثلما هو.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram