كل تمويل يشترط ثمناً مقابلاً. موقفاً أو تواطؤاً أو إعلاناً.. تحديداً في ثقافتنا العربية.كيف نتجنب، إذن، تمويلاً حكومياً أو حزبياً، أو حتى لو كان من مجموعة غير حكومية أو فرداً متنفذاً؟ما قدمه الصديق القاص محمد خضير جدير بالاهتمام، من حيث اتجاه الفكرة
كل تمويل يشترط ثمناً مقابلاً. موقفاً أو تواطؤاً أو إعلاناً.. تحديداً في ثقافتنا العربية.
كيف نتجنب، إذن، تمويلاً حكومياً أو حزبياً، أو حتى لو كان من مجموعة غير حكومية أو فرداً متنفذاً؟
ما قدمه الصديق القاص محمد خضير جدير بالاهتمام، من حيث اتجاه الفكرة نحو الاستقلال وتجنب الموقف المقابل الذي يطالب بمردود لتمويله هذا المهرجان أو ذاك المشروع.
المجلس الثقافي البريطاني، مثلاً، رغم أهدافه الرئيسة في تطوير الثقافة والفن، إلا أن من بين الفروع التي ينشط في العمل عليها هي الرياضة والتعليم والسياحة، وله فروع في مئة بلد تتوزع على القارات الست.
يعتبر هذا المجلس مشروعا للاستثمار، أي أنه يحصل على دعم 20% فقط من الحكومة، ولكنه دعم غير مشروط، لأنه (المجلس) يغني الحياة الثقافية والفنية، وحتى السياحية، عندما يربط آلاف الناس، سنوياً، ببرامجه المتنوعة، عبر القارات، عدا تقديمه ودعمه النشاطات الثقافية والفنية: الشعر والمسرح والموسيقى والفن التشكيلي، ومئات الأنواع من الأنشطة التي تربط العالم، وهذا طبعاً لا يقدم مجاناً.. بل إن دخول أي فعالية بموجب تذكرة مدفوعة الثمن، أو أجور للدروس والورش والكورسات والامتحانات والتخرج والشهادات.
.. وهذا يجرنا إلى جانب آخر: لماذا يشتري المواطن/ مستهلك الفنون وغيرها تذكرة؟
لا يشترى المواطن/ مستهلك الفنون وغيرها تذكرة إلا بعد أن يعرف بأن ما يقدم له ممتع ومفيد يستحق أن يدفع مقابله ثمناً.
يتناسب هذا الثمن طردياً مع رقي النشاط الفني أو الثقافي أو التعليمي، حسب أهمية ما يعرض (نوع البضاعة) ومن مجموع المستحصلات يتجمع دخل كبير في صندوق المجلس.
يعني لا شيء مجانا، والمواطن لا يذهب إلى الأمسية الثقافية متضامنا، وبدافع الشعور بالواجب الأخلاقي، مثل ما نذهب نحن إلى مجلس فاتحة نعزي أهل الميت بكآبة قد تكون مجاملة.
مئات ورش التعليم، وفي مختلف الاختصاصات، يشرف عليها المركز البريطاني، والمشاركون يدفعون ثمنا لما يتلقونه من دروس.
المركز الثقافي البريطاني، باختصار، مؤسسة استثمارية تجذب الآلاف من المستثمرين، من داخل بريطانيا وخارجها، ويعمل في منتهى الوضوح والشفافية ويمكنكم، إن شئتم، الدخول إلى موقعه على النت لتعرفوا مصادر دخله والدعم (غير المشروط طبعا حتى من الحكومة) ولا يستخدم كجزء من وزارة إعلام حكومية تلمع سياسة الحكومة ونشاطاتها وتروج شعاراتها الآيديولوجية، ومن دون أي اعتبار للعنصرية والقومية والدين واللون.
ستقولون هذا في بلد عريق، ودولة عظمى ومجتمع مؤسساتي راسخ.
طبعاً، فهل أضرب لكم مثلا ببلد مفكك ومجتمع متوتر تقوده سلطة فاسدة، وعدد المساجد والحسينيات فيه يفوق عدد المدارس والجامعات ومراكز البحث مجتمعة؟
إذا كنا غير قادرين على تقديم نشاطات ثقافية وورش تعليم وأماس فنية مغرية لمواطن يقتنع بشراء تذكرة، مثلاً، فهذا يعني أن الأزمة خطيرة ولا ينفع معها ترقيع أو تبرير.
رغم أن البدايات صعبة لكنها ممكنة حتى لو حققت القليل:
هل يقتنع اتحاد أدباء وكتاب البصرة، بمناسبة المربد، أن يتخذ الخطوة الأول: الدخول بتذاكر؟
هذا سيحرم الكثيرين من الدخول! نعم، ومن قال إن الكثيرين معنيون حقاً بالشعر والاستماع إليه؟
القليلون الذين سيشترون التذاكر، هم فعلاً، المعنيون بالشعر والاستماع إليه واللقاء بشعرائهم المحبوبين.
بدلاً من مئات الحاضرين الذين يتثاءبون أثناء إلقاء الشعر، أو يغادرون القاعة لشأن ما، أهم من الشعر (التدخين مثلاً)، لنكتف بمئة شخص فقط. وبالمناسبة، إن مئة شخص يحضرون أمسية شعرية هو عدد كبير في بريطانيا، إلا في الحالات الاستثنائية.
لنفترض أن سعر التذكرة ما يعادل عشرة دولارات، وهو مبلغ زهيد عند مئة مواطن بصري، كي لا أقول عند جميع البصريين، فسنحصل على ألف دولار، ولما كانت جلسات المربد تستمر لثلاثة أيام، فسنحصل على ثلاثة آلاف دولار.. عدا أننا سنحصل على جمهور نوعي، والنوع الجيد قليل دائماً.
نعم، إنه مبلغ صغير مقابل المصروفات: بطاقات الطيران لبعض الضيوف من خارج العراق وحجز الفنادق والنقل ووجبات الطعام... إلخ. لكنني قلت: البدايات صعبة لكنها ممكنة.
ثمة مسألة أخرى: ثقافة التبرع غائبة تماما من ثقافتنا الاجتماعية، وكانت كذلك سابقاً في الدول الأوروبية وأمريكا، لكنها بدأت تدريجاً حتى أصبحت سلوكاً طبيعيا، وهناك مئات الإعلانات في التلفزيونات ومحطات مترو الأنفاق والقطارات تدعو الناس للتبرع، وهناك آلاف الناس الذين يدفعون تبرعاً شهرياً ثابتاً، يستقطع من حساباتهم المصرفية، سواء للجمعيات الخيرية أو لمراكز البحوث الطبية أو لجائعي البلدان الفقيرة ومرضاها.
هل فوتحت وزارة النقل بمنح تذاكر سفر مجانية للمدعوين من خارج العراق؟ إذا فوتحت فما هي النتيجة؟ وإذا لم تفاتح ففاتحوا وزيرها واحرجوه، وإن رفض فافضحوه!.
ألا يمكن إطلاق حملة يتبناها اتحاد أدباء وكتاب البصرة، موضع الكلام، لاستحصال تبرعات من ناشرين وأصحاب فضائيات ومراكز إعلامية، إذ لا بد ثمة بينهم، حتى لو كانوا قليلين جدا، من يؤمن بالمربد ويحب الشعر ويشجع ترويج الفن والجمال. أقول لنحاول، وأذكّر: البدايات صعبة ولكنها ممكنة.
اقتراح آخر: ليس صعباً أن يتبرع الشعراء والكتاب بنسخ من كتبهم إلى معرض كتاب المربد، على أن تذيل بإهداءات وتوقيعات مؤلفيها، مسبقاً، ليضاف اسم مشتري الكتاب عند شرائه للكتاب عند مركز البيع. الأمر يتوقف على عدد المتبرعين ونوعية كتبهم، وإذا بدأنا بخمسين متبرعاً سيكبر العدد في الدورات المقبلة، أو يمكن أن يستمر المعرض على مدى العام.
غالباً ما تكون أمسياتنا الشعرية، أو أصبوحاتنا، نمطية، وربما مملة، فأقترح أن يجري العمل على ابتكار أشكال جديدة لتقديم قصائدنا: مع الموسيقى، مشاركة ممثلين في قراءة ممسرحة لعدد من الشعراء، عرض خلفية سينمائية للشاعر على المسرح أثناء قصيدته... إلخ. أعتقد أن الفنانين المسرحيين والسينمائيين العراقيين لن يترددوا في إغناء هذه الفكرة وتطويرها بما يضفي المزيد من الجمالية على القراءة الشعرية الناشفة، ويرقّي "بضاعتنا" الفنية ليجعلها جديرة بثمن التذكرة التي دفع ثمنها "مستهلك" الشعر.
هذه المقترحات شكل أولي وعام وهي بحاجة إلى إغناء وتصحيح وإضافة أرجو ممن "يهمهم الأمر" الإسهام فيها على وفق الوقائع العراقية التي يعرفونها أكثر مني بالتأكيد.