TOP

جريدة المدى > عام > هذا هو الجحيم!

هذا هو الجحيم!

نشر في: 20 ديسمبر, 2015: 12:01 ص

يبدو ان الانسان يحتاج إلى ما يستاء منه أو يناقضه او يكون شاغلاً. هو غالبا في منطقة صراع ينتصر فيها أو يثأر أو يدين، أو يرد..هذه المعارضة، أو حال الضد، سياسية أو فنية تصير طبعا ملازما. سمة اخلاقية وشخصية. والحياة الاجتماعية، البيئة السياسية في بلاد مث

يبدو ان الانسان يحتاج إلى ما يستاء منه أو يناقضه او يكون شاغلاً. هو غالبا في منطقة صراع ينتصر فيها أو يثأر أو يدين، أو يرد..
هذه المعارضة، أو حال الضد، سياسية أو فنية تصير طبعا ملازما. سمة اخلاقية وشخصية. والحياة الاجتماعية، البيئة السياسية في بلاد مثل بلادنا، ساحة صراع تفاهات، نجد مشاهدها اوما يروى عنها. الاطراءات والاستنكارات والمع والضد، في كل مكان: عند المخبز وفي حفل الزفاف والتأبين!
نحن مجتمع بطالة. وشعب ضعيف فيه هزال نفس وجسد. والبطالة تريد شاغلا. هذا ما نراه، في المقاهي وتجمعات العجائز والمتقاعدين العاديين الذين لا ينشغلون بمشروع بناء أو كتابة أو فن. والشخصيات الفارغة، المصابة باكثر من نوع واحد من الفقر، فقر مال، فقر فكر وربما فقر دم.. هذه تجد راحتها في الفضائح وفي المفارقات السياسية وخطبة هذا وكيف "نزل حدره" أو "وكع لهم دك.." نوع من الثأريه يكشف عن نفسه.
لنا في الادب أيضاً شواهد. الكتّاب الذي تجاوزوا الستين والسبعين، لهم خبرات ورؤى فحين يكتبونها للفائدة أو لتجنب الاخطاء، يشيد به بعضٌ ممتناً. لكن اخرين تمس اعصابهم فلا يقولون آراء قديمة ما عادت تنفعنا ولا زمن اخر يتطلب كلاما اخر... هذه، لا ترد، ما يرِدُ هو نوع من الهستيريا المتحكِّم فيها: ما هذا التخلف؟ من انت؟ اين نحن...؟
اقرا ما يكتبه غيرك، خذ منه أو لا تفد، ما لا يعجبك اهمله. نحن في القراءة مثلنا في الشراء نختار ما يعجبنا وما يريحنا. هذا الهدوء، هذا الكلام العقلاني لا يقنع من اعتاد على الاعتراض، من يتلذذ بالضد. اجتماعياً، ثمة رفض حتى للصحيح المعمول به في الدنيا! "ماذا يعني حزام الأمان؟ ولماذا هذه الاستدارة؟ اكثر، لماذا يرسلني الطبيب للاشعة أو للتحليل؟ نعم هناك ابتزاز، ولكن هذا لا يرسم قاعدة، هو يريد ان يقطع الشك باليقين. بالفحوصات المختبرية أو بالاشعة أو الرنين أو الايكو...
مثل هذا في السياسة، لماذا يتفاوضون مع المجرمين؟ لماذا يشاركون في هذا المؤتمر أو ذاك؟ وهكذا هي سُبة الاعتراض أو الضد اصبح لها حضور يومي اصبحت مرضا مزمنا أو خصيصة اجتماعية.
لا اعتقد بشفاء سريع ولا حتى باصلاحات اجتماعية ولا بمواعظ وخطب. فهذه كلها ستقع في ميدان الاعتراض والضد والتسقيط والسخط والثأرية. مجموع هذه الاغترابية المشاكسة، الشرسة والمجرمة احيانا، ستظل حتى نبتعد عنها الى جيل اخر، جيل اجتماعي جديد له ثقافة جديدة، مستوى اقتصادي افضل، وفي اوضاع  سياسية تتقبل الصواب برحابة صدر...
حتى في الأدب قد ينتابنا حس كهذا رفض حاد، عداء مجاني، ثناء فضفاض رياء، حدة لا ضرورة لها. وبالنسبة لنا، الكتّاب، قد نشطب سطورا من كتاباتنا بحدة قاتل! وحين تراجع المسودة بعد ايام تجدها منسجمة ووجودها كان مفيدا، لماذا؟ لتلك اللحظة حكمها. انت كنت في حال اخرى. واحدنا لا يتخذ قرارا حرا بنفسه إلا وأحس بشعور عميق من عدم الارتياح. نفوسنا "الفردية" أصابها الداء أيضاً. كتّاب في استوديوهاتهم يكتبون العديد من الصفحات بارتياح وسعادة نحن نخرج من كتابة صفحتين أو عمود صحفي مرتبكين او قلقين! ما يريد الكاتب في الكتابة هو شعوره بانه يتحرك، انه يعجِّل في الانتهاء أو في الخلاص.
هذا العذاب نجا منه المؤرخون والفلاسفة فهم يرون ما حدث صحيحا وما لم يحدث خطأً، او بالعكس. يقولونه بتبسيط وبلا مبالاة، بهدوء واستقلالية  وحياد... المغترب، الرافض الاعتراضي، لا يمكن ان يعبر عن نفسه بذلك الشكل.
هو يكتب ويخشى. وحين يعبّر عن نفسه لا بالكلمات، لكن بنشاط علمي، تجده اكثر انبساطية، واكثر وداً، ولكن الاعتراض يختبئ وقد يفاجئ الجميع!.
ان وراء هذا هو القلق. قلق الحاضر والقلق من المستقبل وعلى النطاقين الفردي والجماعي. نتيجته هذه الهستيريات، الانفعالات حالات الرفض، والاعتراض على الخطأ او على الصواب! هو عدم رضا كامن. هو استثقال العبء والحواجز أو معرقلات الوصول.
على النطاق الجماعي هو هذا الكفر بالأحزاب والتنظيمات وعدم الثقة بالحكومات، والتشكيك حتى بمشاريع الإصلاح بل بحجر الأساس لهذا المشروع أو ذاك. اتهامات دائمة، رفض دائم، كراهات مسبقة. البحث لا عن إيجاب ولكن البحث عن حجة للإدانة والانتقاص.
نعم هناك افراد مغبونون وهناك عيوب في الدولة وسلطاتها وثمة ما يدان أو يشار اليه. لكن السخط العام والرفض العام والتشكيك حتى بالأمور الجيدة  وإتعاب النفس في البحث عن عيوب لنؤكد شخصياتنا أو افكارنا أو عدوانيتنا، تبقى مسائل مؤذية للحاضر. واذا استمرت فهي مؤذية للمستقبل. لابد من تربية سليمة. من توازن عقلي و... عاطفي. ثمة صواب وثمة خطأ. لا خطأ فقط!
بعض المفكرين ينسبون تلك الظاهرة إلى انتصار الماكنة وافتقاد الانسان السيادة الاولى في حقول عديدة. لم يعد هو بذلك المظهر السلطوي الأقوى. وهنا صار يحاول ان يكون "سوبر مشين" ماكنة بشرية متفوقة على من حواليه حين   يرفض كل شيء. بالنسبة لنا بعضهم، وانا منهم، يعزو بداية السخط إلى انحسار المد الشيوعي والخيبة من المآل. لكن مثل هذا تكرّر أيضاً في انحسار البعث وسقوط النظام فبدأ الرفض، حتى ان ضباطا قوميين علمانيين عملوا، انتقاما وثأريةً، مع داعش وصار رفض الدولة والقائمين عليها عاماً ودائما.. قبل مئة سنة قال كيير كيغارد: الحقيقة تتعرض إلى مئات الانكارات. لكنا اليوم صرنا ننكر كل ما يهز عصبنا، كل ما يذكرنا بفشل ما، كل حسنة تصدر من خصمنا. هذا الانكار أو الاعتراض المضاد جعلنا نرى كل شيء زائفاً وغير صحيح، وهذا هو الجحيم!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

"كِينْزُو تَانْغَا"" src="https://almadapaper.net/wp-content/uploads/2025/02/5842-7-2.jpg">
عام

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

د. خالد السلطانيمعمار وأكاديميعندما يذكر اسم "كينزو تانغا" (1913 - 2005) Kenzō Tange، تحضر "العمارة اليابانية" مباشرة في الفكر وفي الذاكرة، فهذا المعمار المجدـ استطاع عبر عمل استمر عقوداً من السنين المثمرة ان يمنح العمارة...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram