تحت عيون الجميع، أُحضرت جذوع الاشجار الضخمة من الغابة المجاورة، وقد تم تجفيفها وتهيئتها للعمل، ثم توزعت لتنتصب بارتفاع أكثر من مترين في أرجاء المكان المعد للنحت المباشر على الخشب، حيث توزعت مجموعة كبيرة من الخيم البيض العالية التي يقف تحتها النحاتون بكامل عدتهم، والناس في ترقب وانبهار وانتظار أكيد للنتائج التي ستصاحب هذا المهرجان الفريد والممتع الذي يستمر أسبوعاً كاملاً. هيأ النحاتون أدواتهم وأزاميلهم وأمسكوا المناشير الخاصة بأيديهم ليبدأوا العمل الشاق والجميل أيضاً. هنا في هذه المنطقة التي أقف وسطها الآن وأترقبها بشغف كبير، يقام أكبر مشغل ومعرض للنحت على الخشب في الهواء الطلق سنوياً في هولندا، وبالذات في مدينة دراختن التي أعيش فيها وأرسم. أسبوعاً كاملاً يقضيه النحاتون هنا ليقصّوا علينا حكاياتهم عبر تقنيات وأشكال وشخصيات تنبض بالحياة وتتنفس هواء المدينة وكأنها تعيش بيننا.
إنها فرصة عظيمة لي كي أتجول بين النحاتين وأراهم يقشرون الخشب ويزيلون زوائده الفائضة عن الحاجة ليخرجوا لنا بهذه التحف الفريدة في أجواء ممتعة قلَّ نظيرها. الخشب، هذه المادة الحية الدافئة أراها أمامي وهي تتحول من اشجار خضراء، كانت قبل فترة قريبة تنتصب في تلك الغابة الواسعة، قرب بيتي، لتصبح كائنات جميلة تبدو متحركة وذات ملامح تجذبك اليها بمحبة من شدة روعتها وقوة تعبيرها. أعبر الحاجز الملون الذي يسوّر المكان ويفصل بين النحاتين والجمهور الذي يراقب تفاصيل عملية النحت، وأقترب من الفنانين لأحييهم وأسير بينهم، حيث تتقافز حولي قطع الخشب الصغيرة المتطايرة من آلات الحفر والمناشير، وأتوقف هنا وهناك لأمرر أصابعي على أغلب المنحوتات وأتلمس دفء هذه الكائنات التي ابتكرها هؤلاء الفنانون وسط جمهور كبير احتفل بالفنانين والمنحوتات والمكان الذي جمعهم بألفة ومحبة.
هكذا بدت أيام الاحتفال السبعة لمعرض (الشتاء الأبيض)، في ساحة المدينة الرئيسية التي هيأتها البلدية خصيصاً لهذا الحدث الفريد. أشعر بمتعة وأنا أحيا وأتحرك وسط قطع فنية أراها تنمو أمام عينيَّ وبقية حواسي، وكلما اقتطع جزء من جذوع الأشجار، تنمو هذه الكائنات وتتضح لي أكثر. كلما صغر حجم جذع الشجرة كلما بانت المنحوتة للعيان بشكل أوضح. هنا عرفت أن مايكل أنجلو كان محقاً حين سألوه عن كيفية إنجاز منحوتاته العظيمة الخالدة، فقال (أنا لم أفعل شيئاً، هذه التماثيل موجودة أصلاً في الحجر وما عليّ سوى أن أزيل الزوائد منها لتظهر للوجود). ألتفت الى الباحة المجاورة لورشة النحت المكتظة بالناس، لأرى مجموعة من الأكشاك الصغيرة التي شكلت دائرة كبيرة تنبعث منها روائح الأطعمة والمشروبات التي أُعدت للمناسبة، فأسحب خطواتي نحوها لأحصل على طبقين من سمك الهارينغ، أتناولهما وأنا أتجاذب الحديث مع بعض المعارف هناك، لأعود بعدها أتابع مهرجان النحت الحي حيث بدت الأشكال أشد وضوحاً والنحاتون أكثر تعباً وهم منهمكون بالعمل قبل أن يأخذوا استراحة قصيرة لتناول الطعام وشرب القهوة.
اشترك في هذه التظاهرة الفنية فنانون كثيرون من داخل هولندا وخارجها مثل سيرغي ديتشليفي الأوكراني الحاصل على جوائز عالمية عديدة في هذا النوع من المعارض، ورولف دودرلين الذي يعتبر أفضل فنان هولندي في هذا المجال، وكذلك الفنان البريطاني كولن جيمس وغيرهم الكثيرون. وقد صاحبت هذا المهرجان أنشطة عديدة أخرى للصغار والكبار، تحت أجواء الشتاء الجميلة وأضواء عيد الميلاد، حيث أنيرت المتاجر المحيطة بالمكان بطريقة خاصة أيضاً ليكون التسوق أكثر جاذبية ومتعة. أتطلع الى الجانب الآخر من هذه الورشة الضخمة لأرى نشاطاً آخر هو (ليلة الأزياء)، وبجانبه يتجمع الكثير من الصغار حيث (التذوق في بيت الحلوى) مع الشوكولاته الساخنة. أنظر الى الشمال قليلاً لتطل عليّ فعاليات (شخصيات الصابون) التي يبدعها الأطفال، الذين تسارعوا فيما بعد نحو مكان مخصص لحكايات الشتاء المغلفة بالموسيقى التي يحبونها كثيراً. أذوب في المكان وأصبح جزءاً من جمال مدينة أنتمي اليها وأحبها للأبد.
معرض الشتاء الأبيض
[post-views]
نشر في: 25 ديسمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...