يتبيّن لنا الآن أن ما فعلته الطبقة السياسية الحاكمة، مذ إعلانها الاستجابة لمطالب الشعب بالإصلاح في الصيف الماضي، لم يتعد كونه عمل حلاوة في قدر مثقوب، كما يقول المثل الشعبي.
ما جرى وحصل هو عملية تقشف محدودة كانت ستُقدم عليها الحكومة ومجلس النواب، شاء أعضاؤهما أم أبوا، حتى لو لم تكن مئات الآلاف من العراقيين قد نزلت إلى الساحات والشوارع على مدى الأشهر الخمسة الماضية، فانهيار أسعار النفط وخواء الخزينة الذي ورثته الحكومة الحالية عن سابقاتها الفاسدة، كانا سيرغمان الحكومة إرغاماً على التقشف.
لكن يتبين الآن أيضاً أنه لا يمكن التعويل على إجراءات الحكومة التقشفية في إحداث اختراق أو تغيير لجهة سد العجز الخطير في الموازنة العامة للدولة الناجم عن الانهيار المتواصل لأسعار النفط وللنهب السافر للمال العام في عهد الحكومتين السابقتين.
المبالغ التي ستتوفر من إلغاء مناصب نواب رئيسي الجمهورية والوزراء ومن التخفيض المحدود في مخصصات كبار المسؤولين في الدولة، لن تزيد قيمتها عن بضعة مليارات من الدولارات سنوياً، فيما الحاجة تمسّ إلى عشرات المليارات، وبخاصة بعدما تبيّن أن التقدير الذي وضعته الحكومة لعائدات النفط وصادق عليه مجلس النواب غير واقعي، فأسعار النفط تنحدر وتقترب من 30 دولاراً للبرميل، أي ثلثا التقدير الذي بُنيت عليه موازنة العام الحالي، وهذا مما يضاعف مقدار العجز الحقيقي في الموازنة. ومن الواضح الآن أن الموازنة الحالية لن تفي بأكثر من احتياجات ومتطلبات ستة أشهر فقط.
الحكومة كان عليها ليس فقط أن تضع موازنة تستند إلى تقدير واقعي لأسعار النفط، بل أن تقترح على البرلمان إجراءات تقشفية أوسع وأكثر عمقاً، تشبه الإجراءات التي أعلنت عنها منذ أيام حكومة اقليم كردستان أو أفضل منها، وأن تستهدف هذه الإجراءات الفئات العليا في الدولة والمجتمع، وليس الفئات الدنيا التي تتشكل من أغلبية الموظفين والعمال والمتقاعدين.
حكومة الإقليم أعلنت عن إجراءات لتنظيم وتفعيل نظام جمع الضرائب وتخفيض المخصصات للدرجات الخاصة، ومنها التخفيض بنسبة تصل إلى 50 بالمئة في مخصصات مناصب رئيس الإقليم ونائبه ورئيس مجلس الوزراء ونائبه والوزراء ومن هم بدرجة وزير والذين يتسلمون راتب وزير ووكيل وزارة والأشخاص الذين بدرجتهم والمستشارين وأصحاب الدرجات الخاصة في جميع مؤسسات الإقليم بمن فيهم الرؤساء ونوابهم وأعضاء مجلس القضاء ومحكمة التمييز في الإقليم والقضاة وأعضاء الادعاء العام والمدراء العامون، وسوى ذلك من الإجراءات، وكذلك إلغاء أية مخصصات للكثير من أصحاب المناصب في سلطات الإقليم.
مع ذلك فليس من المقدر أن تنجح إجراءات حكومة الإقليم ولا إجراءات الحكومة الاتحادية في الحؤول دون وقوع ما يرتقي الى مستوى الكارثة بعد بضعة أشهر عندما ستصحو الحكومتان ذات صباح لتجدا أنهما غير قادرتين على دفع رواتب موظفيهما.
الكارثة المالية والاقتصادية والاجتماعية المحدقة، كما كارثة احتلال داعش لثلث مساحة البلاد بكل عواقبها المأساوية، يمتدّ أصلهما وفصلهما إلى النظام السياسي الذي لم تزل حكومتا بغداد واربيل تدافعان عن وجوده كما تدافعان عن حدقات العيون. وتجنب الكارثة الوشيكة والخروج من الكارثة القائمة لا يمكن أن يكونا بإجراءات تقشفية فحسب، حتى في صيغتها الكردستانية .. الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي الشامل والعميق هو وحده المنقذ والمنجّي.
حلاوة في قدر مثقوب!
[post-views]
نشر في: 25 ديسمبر, 2015: 09:01 م