اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > كارتونُ مـوزٍ تالـفٌ

كارتونُ مـوزٍ تالـفٌ

نشر في: 26 ديسمبر, 2015: 09:01 م

على حافة الطين ذاتها وقفتُ، وكنتُ لصقك، على امتداد الماء الذي بيننا ، أخذت طرف الحبل بفمك، وعبرتَ النهرَ عائماً، وإلى شجرة التوت العظيمة أوثقتُ أنا طرفه الآخر، ثم غمرنا الماءُ الملفوفُ البارد، أنا أعطيك من عيدان الجريد ما تُنبته في الطين وتثبت به الشباك، وأنت تغوص، بحثاً عن ثغرة تردمها، تلعق الاسماك ربلة ساقك فتضحك، أريك إزرقاق شفتيَّ من البرد، وتريني حبات الكزبرة على جسدك، حيث يقشعر وترتجف. وحين اصطكت أسنانا من البرد، قلتُ لك لنذهب الى سوباط السعف الصغير، ومثل ثورين هائجين ركضنا، حملنا أحذيتنا والنظيف من ثيابنا ودخلنا قصر الدفء، أشعلنا غابة النخل جذوعاً يابسات وعوسجاً جمراً، ظل يتقد كلما هبـّت ريح من الشمال.
لحاف القطن القديم هو فراشنا الوحيد، صرة ثيابك مخدتك، وصرة ثيابي مخدتي أيضاً، كان البرد ظالماً، قارساً، وقد اطبق الليل بثلجه على اخصاص السوباط كلها، ولم يبق في الموقد الكثير من الدفء. صار الجمرُ رماداً عالياً، ولم تنفع عصاك الجريد في نبشه وإثارته. قلتُ لك: غط ِّرأسك، واجعل ظهرك إلى ظهري، ادفع بجسدك، سيدفئك دمي، انا دمي حارٌ في الشتاء، ومثل طفل جمعت ساقيك وفخذيك الى بطنك ونمت. وحين كنت تلتئم برأسك تحت ذراعك، تحت كنت أمدٌّ يدي فأجني الكثير من أحلامك وآمالك. لا لم تكُ لتفكر بالكثير من النقود، بيتٍ من الطابوق وسيارةٍ حديثة. كنت أعرف احلامك عن قرب. خمسَ أوقيات من السمك حسب، تكفي لتردم هوة احلامك كلها. لذا، كنت تشخر بمنخرين اثنتين، ومن انفاسك كانت تنبعث رائحة خبز حار ولبن خيض تواً، لم تُجمع زُبدتُه بعد. وحين شقَّ الفجر عباءة الظلام، كنتُ انسللت قبلك، أيقظت جمر الموقد بحطب جديد وأعددت الشاي. ما كنا لنعرف ما سيفعله بشباكنا هذا الوحشي الوسخ، كليب الماء( الأووتر) لم يترك شبراً صحيحاً، قرض الحبل الطويل وتهدل طرفاه، اكل السمكات الكبيرات، ولم يترك لنا إلا ما لم تتقبله معدته، هذا الكائن اللبوني، ما كنا نخشاه حين خلدنا للنوم معاً في سوباط السعف والقصب. قلتَ لي: لا بأس، سأكون له بالمرصاد، غداً، وستكون بندقيتي الشوزني معي، وسأملأ بطنه باروداً، لكنك حين رأيته في الليلة الثانية وهو منكباً يطعم صغاره ما اذخر من سرطانات وسمك وضفادع. هالك أن تطلق النار عليه، أفزعك المشهدُ الانساني. ومثل محارب خائف، مهزوم، مرتعب تركت بندقيتك تنزل إلى الأرض، وجلسنا قبالته، هل غالبنا الدمع، أظننا نعم، هل انتحبنا في سرِّنا عليه، أيما والله. أتراه كان يشاركنا فقرنا وحاجاتنا، مَن يعلم؟ أما هو فلم يشعر بشيء من الخوف منك، فقد استسلم لروح الهوان والعطف التي بنا، وظل يُطعم جراءه، يلطع بلسانه الخشن فراء الصغير بينهم، غير آبهٍ بنا ، حتى اختفى عن أعيننا بين القصب، لفـَّته الظلال، ولم نعـد نراه.  تعلمتُ منك كيف ألتقطُ ما تلقيه السفن في شط العرب، من الخشب وكراتين الموز والتفاح، صرتُ أُسرعُ باتجاهها، وقبل أن تنقلب في الماء اختطفها من بين أيدي البحارة الهنود، كان زورقنا صغيرا، لكننا، نراكم العلب والاخشاب، كنا نحمّله فوق طاقته، والمركب الإنكليزي (الاستريك) يجري أمامنا سريعاً، قلت لك: يكفينا ما حصلنا عليه اليوم، لا تلقي بنفسك في الماء، سيتعقبك رجال الشرطة، نحن قريبان من خط التالوك، والضفة الإيرانية قريبة جداً، لكنك صحت بي: هذا الصندوق فقط. ومثل جذع من برهام صلد، رميت بنفسك، كنت تسبح متعجلاً المركب وأيدي البحارة الهنود، لكن الموج أخذك ليس بعيدا عن نهاية السفينة، إلى حيث تزبد وترعب البروانة هناك. هل أشفقت عليك تروسها ولم تهرسك؟ أنا ظننتها تخطفتك بين أسنانها، لأنني لم أعد أراك، صرتَ والموج والزبد وفقاعات الهواء. ومثل كارتون موز تالف لحت لي، فقد ألقت الامواج بك بعيداً، شيئاً من قميصك أظهره الموج ولم يختف. وكمن يركب زورقاً كبيراً يتسع لآلاف الكارتونات الصحيحة أسرعت اليك، التقطتك، لا خدوش ولا كدمات في جبهتك، ولم تقرض التروس أياً من أصابعك، كنتُ الفَرِحَ السَّعيدَ بسلامتك. في الليل، قرب الموقد، في البيت الذي ما زال يجمعنا، وبعد عشرات السنين. قصصت ذلك على زوجتك وأبنائك. لم أقل لهم كل شيء، فقد غلبني ألم قديم في ساقي، ولم يبق في الفانوس إلا القليل من الزيت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram