TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الديناصور والمدينة

الديناصور والمدينة

نشر في: 26 ديسمبر, 2015: 09:01 م

المليارات من بني البشر عاشوا هنا عبر التاريخ ومزقتهم الويلات والمحن. ظل الانسان آلاف السنين ينام على شجرة ويمضي ليلته يرتجف خوفا من الوحوش والكواسر. لم يكن يمتلك الكلاشنكوف للدفاع عن نفسه، ورأى صغاره مرات ومرات وهم يتحولون الى وجبة للأسود او بقايا اشباه الديناصورات. لم تكن لديه قوانين تحميه من شيء ولا امم متحدة تقدم له اي نوع من الحماية. لكنه لم يستسلم للذعر ولا لقسوة الطبيعة، وانشغل باكتشاف النار والزراعة وصناعة العجلات، ولولا حبه للحياة وعثوره على معنى جميل للتفاؤل وسط غابة الوحوش، لما كنا اليوم نتنعم بمنجزات التمدن البشري هذا.
الكثير من الناس يصابون بالملل والاحباط حين يطلع على حقائق الخراب الانساني والعمراني في بلادنا. والبعض منهم يطلب ان نتوقف عن سرد الكوارث هذه لكي "نتضامن مع المرحلة". لكن هذا مستحيل، فالصمت لن يقلص الفترة الزمنية المخصصة لخرابنا. والامم الحية هي التي تعترض كل لحظة على الاخطاء، ويبدأ التفاؤل وحسب حين ينخرط المجتمع الحي في ممارسة الاعتراض بحثا عن حل ويجري دعم التعقل العلمي المحسوب ضد الانفعال الغريزي البدائي، ويبدأ التفاؤل وحسب حين يتحول الاعتراض المتواصل الى اداة ضغط تتجه الى تغيير مستمر للخطط الفاشلة، وتضغط للبحث عن حلول متعقلة مجربة.
والذين ينجحون اكثر هم شخصيات قادرة على المبادرة والابتكار في احلك الظروف وأسوئها.
ومقابل الصورة اليائسة توجد لدينا صور اخرى معاكسة تحفز التفاؤل. مثل الشباب الذين ينظمون المظاهرات وحين تتوقف ينشغلون بمبادرات مفيدة اخرى. وأجدني احسدهم على صبرهم في الوقوف ساعات طويلة تحت الشمس وفيظل البرد لجمع تبرعات للنازحين وللكتب وللاعمال الخيرية ولدعم معاني الاعتدال السياسي.
هؤلاء يصابون بالاحباط مثلنا تماما، ويطالعون الاخبار السيئة كل يوم، ويشعرون بالضجر اثناء علوقهم في السيطرات والازدحامات، كما يشعرون بالخوف حين يتجول الموت في مدننا وقرانا. لكن هذه الاحاسيس لم تحبطهم، وبكثير من الحب للحياة قدموا تعريفا جديدا للتفاؤل لا يحمل اي كذبة او شعورا مزيفا، وهو: ان تواصل العمل المفيد وتبتكر المفيد حتى في أحلك الظروف وأسوئها.
في شركة واحدة تجد الكثير من المتكاسلين يلعنون الحظ. لكنك تجد صورة اخرى لموظف يندفع بحب الحياة ويبادر ويضيء مساحته الخاصة من الكون، بينما بإمكانه ان يتذرع بمليون يأس كي يقف مكتوف الايدي امام مساحات الظلام.
الشعوب الشاطرة لا تكذب على نفسها، بل تمتلك جرأة ان تروي أسوأ فصول الحكاية الا انها في الوقت نفسه تتعلم الكثير من الشباب الذين يجمعون التبرعات لمساعدة النازحين او يصممون حملات لنبذ التشدد والعنف. هؤلاء هم الفرق بين زمن الديناصور ولحظة المدينة، ولهؤلاء اقول كل عام وانتم بخير، فأنتم ثمرة التمدن المستند لتضحيات الاف السنين. والشباب سيرسمون الفارق النهائي بين ديناصور الغابة واخلاق المدينة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. كمال يلدو

    شكرا جزيلاً لهذه الكتابة الرائعة. سنة سعيدة مليئة بالانجاز لك ولكل الاحبة في المدى

يحدث الآن

بالحوارِ أم بـ"قواتِ النخبة".. كيف تمنعُ بغدادُ الفصائلَ من تنفيذِ المخططِ الإسرائيلي؟

تحديات بيئية في بغداد بسبب انتشار النفايات

العراق بحاجة لتحسين بيئته الاستثمارية لجلب شركات عالمية

الكشف عن تورط شبكة بتجارة الأعضاء البشرية

مركز حقوقي: نسبة العنف الأسري على الفتيات 73 % والذكور 27 %

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: برلمان كولومبيا يسخر منا

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

هل يجب علينا استعمار الفضاء؟

باليت المدى: أسد عراقي في متحف

العمودالثامن: في محبة فيروز

 علي حسين اسمحوا لي اليوم أن أترك هموم بلاد الرافدين التي تعيش مرحلة انتصار محمود المشهداني وعودته سالما غانما الى كرسي رئاسة البرلمان لكي يبدا تطبيق نظريته في " التفليش " ، وأخصص...
علي حسين

قناديل: (قطّة شرودنغر) وألاعيب الفنتازيا

 لطفية الدليمي العلمُ منطقة اشتغال مليئة بالسحر؛ لكن أيُّ سحر هذا؟ هو سحرٌ متسربلٌ بكناية إستعارية أو مجازية. نقول مثلاً عن قطعة بديعة من الكتابة البليغة (إنّها السحر الحلال). هكذا هو الأمر مع...
لطفية الدليمي

قناطر: أثرُ الطبيعة في حياة وشعر الخَصيبيِّين*

طالب عبد العزيز أنا مخلوق يحبُّ المطر بكل ما فيه، وأعشق الطبيعة حدَّ الجنون، لذا كانت الآلهةُ قد ترفقت بي يوم التاسع عشر من تشرين الثاني، لتكون مناسبة كتابة الورقة هذه هي الاجمل. أكتب...
طالب عبد العزيز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

إياد العنبر لم تتفق الطبقة الحاكمة مع الجمهور إلا بوجود خلل في نظام الحكم السياسي بالعراق الذي تشكل بعد 2003. لكن هذا الاتفاق لا يصمد كثيرا أمام التفاصيل، فالجمهور ينتقد السياسيين والأحزاب والانتخابات والبرلمان...
اياد العنبر
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram