TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تنويع على فكرة

تنويع على فكرة

نشر في: 27 ديسمبر, 2015: 09:01 م

في رواية "هندرسون ملك المطر" للأميركي ساوول بيلّو يرد الهاجسُ التالي في كيان البطل، الذي اندفع مغامراً الى مجاهل أفريقيا طمعاً باكتشاف نفسه: "قد يكون العالمُ غريباً بالنسبة لطفل، ولكنه لا يخافه خوف الرجل. إنه يُدهش له. ولكن الرجل يُذعر منه. لماذا؟ بفعل حقيقة الموت. ولذا يسعى الرجل الى أن يكون مُختطَفاً كطفل. وبذلك لن يكون الخطأُ خطأه. ومن هذا المختطِفُ، هذه الغجريةُ يا تُرى؟ إنه غرابةُ الحياة ذاتها. الشيءُ الذي يجعل الموتَ نائياً، كما في الطفولة."
الرجل يُذعر، بسبب الموت، من العالم. يحتال عليه في السعي لأن يكون مُختطَفاً من قبل غرابة الحياة: المغامرة، الشعر... تلك التي تجعل الموت نائياً.
كان الشاعرُ أبو نواس، المُختَطَفَ من غجرية "غرابة الحياة" وحده الذي جعل الموت نائياً، غيرَ غائب، "كما في الطفولة"، أو في الطفل الذي فيه، عبر المغامرة والشعر. في واحدة من قصائده يقول "فقمتُ أحبو الى الرِّضاعِ، كما تحاملَ الطفل مسّه سغبُ". بعد أن زال عنه الشبابُ ومرابعُه، وخلانُه الذين، ما إنْ صار الزمانُ ذا ريبٍ، تفرقوا في كل أرض:
ثمّ أرابَ الزمانُ، فاقتسموا     أيدي سبأ في البلادِ، فانشعبوا
والرضاع الذي حبا اليه أبو نؤاس لم يكن غيرَ خمرته، وكلِّ تجلياتها في الحياة: وسوسة الشيطان، الليل، الندامى، المخيلة، ومجسّات الحسِّ المعلنة. فما الذي بقي من الذعر من الحياة. أو بصورة مباشرة: الذعر من الموت؟ لا شيء! أبو نؤاس يلحّ على ساقيه: "الا فاسقني خمراً، وقل لي هي الخمر"، دون تستّرٍ عن تحريم. لأنه يعرف أن استطالةَ السكر تقصيرٌ للعمر!
مع وسوسة الشيطان، مع الليل، مع الندامى، قصائدُه تتزاحم بذلك. ولكن كيف هو مع المخيلة؟ في قصيدة "لا يصرفنّك، عن قصفٍ وإصْباءِ.." يحلو له أن يرى الخمرة نتاجَ نحل العسل، لا نتاجَ نخلٍ وأعناب.
هل يرتضي المعري، المثقلُ بالرزانة والأسى، أن يُختطف هو الآخر من غجرية "غرابة الحياة"؟ ليكون مندهشاً لا مذعوراً. أبو نؤاس كان يُخفي هاجس الموت، وراء كل بيت شعر من غزلياته وخمرياته. تحسه يتلامس مع البشرة الملتهبة بالرغبة. ولكن عبثه لا يفقد طلاقته، لأنه لم يعد يملك ذعرَ الكبار، بل يستعيدُ طفولتَه بفعل الدهشة. أبو العلاء لا يُخفي هاجس الموت هو الآخر. يفضحه، ولا يسترضيه. لا يختلف في هذا عن أبي نؤاس إلا بالتلامس مع البشرة الملتهبة بالرغبة. هذا قدر أبي نؤاس وحده.
أبو العلاء لا يرتضي مواجهةَ العالم مدهوشاً كالأطفال. لا يرتضي مواجهةَ العالم مذعوراً كالرجال. بل يختار التواضع وانحناء القامة. أمرٌ لا يستسيغه الطفل ولا الرجل. وسوسةُ الشيطان لا تتوقف، والليلُ لا يني يتزاحم، ونداماه هم الموتى. ثم تختم المخيلةُ الدائرةَ ليضاهي أبا نؤاس في دائرته.
خمارةُ أبي نؤاس هي ليلُ أبي العلاء. وإذا عبثت مخيلةُ أبي نؤاس مع مصدر الخمرة، وذهبت بعيداً مع النحل، فمخيلةُ أبي العلاء تعبث داخل الليل الأبدي الخالد، "مؤنسُه"، و"حليفُ سُراه". الليل:
من الزّنجِ كهلٌ شاب مفرقُ رأسه،      وأُوثِقَ، حتى نَهضُه متثاقلُ       
وهو يفضل أن يجدَه، لا في تجريد عقله، بل في تجسيد خياله الحسي. ولذلك يقتنصه وهو على ناقةٍ مُتخيَّلة الى ممدوحه. حدث ذلك في قصيدة يجيب فيها الشريف موسى بن إسحاق، يقول فيها ما معناه: دُفعتْ نياقي إليك شوقاً فلم يَحْتذين نعلانَها. حتى هممْنَ بسيرِ أول الليلِ، على أنهن خشين أوسطَه، فتوقفْنَ وبِتْنَ الليلَ على أرجلهن مائلاتٍ من الروْع. حذراتٌ، هنَّ القائمات على سفر، ثلاثَ ليالٍ مظلمةٍ لا يَرعيْن غيرَ الشيح. في دجىً أشباحُه السودُ تتشابه، فلا يميزن شبحاً عن آخر إلا من الصوت الذي يصيحُ به. والزمنُ يمرُّ دون ما اعتدنَ عليه من مجيء ضيف، ولا نباحِ كلبٍ، ولا عبثٍ في عشبِ الربيع، أو ورودِ حوضِ ماء رائق. ولعلي أقسم أن لا تَحكيها العقبانُ ولا نعامُ القفر. فلقد جئناك بهنَّ جسداً وروحاً، ووصلْنَ إليك روحاً دون جسد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram