TOP

جريدة المدى > عام > في ذكرى رحيله..ما الذي بقي من السياب.. كي نقرأه؟

في ذكرى رحيله..ما الذي بقي من السياب.. كي نقرأه؟

نشر في: 29 ديسمبر, 2015: 12:01 ص

القسم الثانيلعل من بين أول الممكنات الكتابية التي نشير إليها هنا ما يتاح للدرس الثقافي الحديث أن يقاربه عن المرحلة التاريخية التي ظهر فيها الجيل الذي ينتمي السياب إليه ـ بفضاءاتها السياسية والاجتماعية وحركية الوقائع المتضادة ، سواء تلك الشادة إلى سكو

القسم الثاني
لعل من بين أول الممكنات الكتابية التي نشير إليها هنا ما يتاح للدرس الثقافي الحديث أن يقاربه عن المرحلة التاريخية التي ظهر فيها الجيل الذي ينتمي السياب إليه ـ بفضاءاتها السياسية والاجتماعية وحركية الوقائع المتضادة ، سواء تلك الشادة إلى سكونية موروثة ومتمكنة من وعي الشخصية العراقية وتوجهاتها ، أو تلك الوافدة بكشوفاتها المثيرة ـ واستجلاء قيمها . وقراءة وجود السياب متفاعلاً مع أنساقها ، لا بوصفه ذاتاً مبدعة عايشت حضوراً خاصاً بها ، بل عبر تشكل ذلك الحضور في حاضنة ثقافية جديدة ، ومغايرة لما هو سائد قبلها ، أهلته وغيره من المبدعين إلى ارتقاء إبداعي عزز الموهبة الخصيبة التي توافروا عليها ، ليكون اللافت في تلك المرحلة ـ عراقياً ـ أنها أنتجت ـ في مجال الإبداع ، وفي حد زمني متقارب جداً ـ شاعراً كبيراً : (السياب) ، وفناناً تشكيلياً كبيراً : (جواد سليم) ، ومطربا كبيراً : (ناظم الغزالي) . وكان من المفارقة المؤلمة أن العراق خسر هؤلاء المبدعين الثلاثة في خلال مدة زمنية متقاربة ، وفي مرحلة مبكرة من أعمارهم ، فقد رحل (جواد سليم) في العام 1961م عن إحدى وأربعين سنة ، وتوفي (ناظم الغزالي) في العام 1963م ،عن اثنتين وأربعين سنة ، ولحق بهما  السياب بعد عام واحد ، وهو بعمر الثامنة والثلاثين.
وفي هذا التخلق اللافت الذي تبدت فيه مساحة العطاء الفذ لهؤلاء المبدعين الثلاثة ما يستوجب تأملاً عميقاً لأكثر من أمر، منها : مديات التواصل بين الفنون ، وحدود استجاباتها التي تنفعل بها عبر الانتهال من آنية مشتركة السمات ، وأفق التنافذ بين القيم الجمالية بشتى تشكلاتها التي تتخلق فيها ، . ليكون الأمر مدعاة لأسئلة تشرع إجابات متعددة عن الفواعل الثقافية المشتركة التي انتهلت منها تلك المواهب ، ومساحة انتمائها إلى بيئتها أو مغادرتها لكثير من مواضعاتها ، وكيف تهيأ لها أن تحقق وجودها في ظل وقائع سياسية واجتماعية تشتغل في حد من المباعدة عن غاياتها الفكرية والجمالية ، لتصنع فعلاً إبداعيا يغاير منطوق تلك المواضعات ، وربما جافاها في أوجه كثيرة . وفي ذلك كله ما يشرع الباب لمجادلات عن علاقة المبدع بالمرحلة التي يعيش فيها ، والحوار المتطامن ـ أو القلق ـ مع اشتراطاتها ، وهو أمر تثيره مكونات ثقافة السياب واشتغالاته الشعرية أكثر من أي شاعر معاصر. إذ يمدنا المستوى المتدافع من الانهماك الثقافي الذي امتلأ به نصه إلى تأمل خصوصيات التكوين الثقافي الذي توافر عليه .
ويبدو أن مساحة الفعل الثقافي التي حضرت في شخصية السياب وشاعريته غير مخبرة عن مجال محدد ، يمثله موقف فكري أو جمالي أو معرفي مقنن ، أو معالجة عقلانية مجردة ، بل هي قبل ذلك وبعده ذات الشاعر بانفعالاتها التي تفيضها على ماحولها ، وما يتصارع في أغوارها ، وحساسيته في تلمس قيم مجتمعه ومرحلته ورغبته المحتدمة في التمرد عليها ، وتواشج ذلك مع فاعلية العوامل والمهيمنات التي تشكل ثقافة الفرد والجماعة وإعادة إنتاجها ، ومقدرته على استدراج ذلك كله ليندمج في أنساق تستوعبها تجربته وتتمثلها .
إن ذلك كله إنما يستدرجنا نحو مآل المعاينة لكشوفات تلك الفاعلية لدي الشعراء الآخرين ـ في مرحلته أو ما سيأتي بعدها ـ  اقتراباً من السياب (الأنموذج) أو ابتعاداً عنه والكيفيات التي تعلن عن حضورها فيها ، من دون أن يقع الأمر في مناط التمحل أو الادعاء ، وعبر ممارسة لا تقيد نفسها بمدلولها المعرفي وحده ، ذاك الذي تداولته منافذ (الشاعرية) بل التماهي مع مستويات النص التي تتجلى من خلالها (شعريته) أيضاً .
ومادمنا في تداول للمسألة الثقافية وكشوفاتها لدى السياب ، فلعل من بين ماتبناه تعزيزاً لثقافته ـ التي سيحيلها بعضاً من خراف معرفة مهضومة في شعره ـ مسعاه إلى استجلاب آفاق خصيبة أصر على أن يرودها وحده ، لينتهل منها الآتون معه أو بعده .
لقد جاء شعر السياب ، وفي مراحله عالية النضج ، مفعماً بروحية أسطورية مستمدة من رموز وأساطير كان السياب يجد في مضامينها مايتناسب وطموحه في خلق خصوصية تعبيرية لشعره ، فضلاً عما فيها من طاقات تمثل تحيل إلى مدركات في شخصيته وقناعاته وثقافته . ولاشك في أن ما أنجزه في هذا المجال يؤشر تحولاً رؤيوياً وجمالياً مثيراً في مسار الشعرية العربية المعاصرة كانت له المقدرة الواعية على ترسيخه. ومن هنا فإن أية معاينة لطبيعة تداول الأسطورة والحكاية الخرافية ، وأي من أشكال المتن السردي العجائبي ـ وسواه ـ وتطور أنساق تداولها وسياقاتها حتى أحدث منجزات القصيدة العربية المعاصرة تبدو غير مكتملة التأصيل إن لم تستهل مقارباتها القرائية بمنجز السياب في هذا المجال ، ومعاودة الإنصات لتجربته ، ولاسيما حين يتم استدراج أفق التلقي المتأمل إلى حيث الجدل حول مقدرة الشاعر على خلق رموزه وأساطيره الخاصة ، تلك التي امتلك السياب حصة باذخة منها ، عبر اشتغاله على رموز فيها ماكان ذا تكيف وجداني يخصه وحده ، وفيها الآخر الذي استمده من اشتغالاته الثقافية على عدد من الثيمات الأسطورية ، تلك التي راح يكررها ويطور منطوقها ومقدرتها على التمثل والتكريس الدلالي في أكثر من قصيدة ، حتى رسخها في أفق التلقي فضاء لدلالات عالية التمثل الخصيب ، ومرموزية تعبيرية تحيل إليه وحده . وإذا كانت رموز (تموز) و(المسيح) و(السندباد) و(عوليس) و(أيوب) مما تمثل فيه التبني الثقافي والذاتي معاً فإن من أبرز ماكرسه السياب في شرعة مرموزيته الخاصة تلك الرموز التي استمدها من بيئته الريفية التي نشأ فيها لعل أبرزها : (وفيقة) تلك المرأة التي يتمثل حضورها في عدد من قصائده محاطة بعوالم من الذكرى النشوانة وأحاسيس الفقدان بعد أن رحلت إلى العالم الآخر: لوفيقة / في ظلام العالم السفلي حقل / فيه مما يزرع الموتى حديقة/ يلتقي في جوها صبح وليل/ وخيال وحقيقه/ تنعس الأنهار فيه وهي تجري /مثقلات بالظلال/كسلال من ثمار، كدوال/ سرحت دون حبال
أما قريته (جيكور) فقد استحالت لديه صنواً للنقاء والبراءة ـ التي يواجه بها سوداوية رؤيته للمدينة ـ وملاذاً من مكابدات روحه المتعبة.
ولم يكن الوجود الأسطوري المتخيل لـ (نهير) قرية السياب الصغير(بويب) أقل شأناً في المرموزية الباذخة التي أضافاها عليه ، حتى لقد استطاع  ـ طبقا لقول للدكتور (جلال الخياط) : " أن يغرق أنهار الشعراء في بويب : الجدول الصغير القريب من دار جده  بجيكور ... ولا يخيل لأحد أنه مصدر وحي شاعر يمحق أساطيل آخرين تجري فيه ، ولا تلبث أن تغوص إلى القاع الذي لا يبعد عن الأرض ثلاثة أشبار".
وتأسيساً على هذا التوجه فلعل السياب هو الذي شرع الأبواب التي لم تغلق بعده ، ولن تغلق ـ في انهماك شعري توطد دأبه عند الشعراء ـ عراقيين وعرباً ، ومن أجيال متلاحقة ـ لإنتاج الرموز الشعرية التي تشير بأصابع خاصة إلى كل منهم دون غيره . وذلك ماكان للبعض وما لم تستكمل تجلياته عند سواهم .
    ولحديث الريادة ـ في فضاءات الإبداع وسواها ـ ما يستدرج التلقي إلى استعادة قضية التجديد في الشعر العربي المعاصر وحضور السياب الباذخ فيها أكثر من أي من شعراء جيله . ولعل من تبعات حديث الريادة أيضاً أن يدلف التأمل بالضرورة إلى تلمس أبعاد التمثل لتجربة الرائد في الفضاء الإبداعي الذي سيصبح واحداً من مشغلات حركيته ، وهو اليقين الذي يكاشف بقيمه كل من يلاحق تجليات فعل التأثير الذي تركه النص السيابي ـ برؤاه وجمالياته ـ في التجارب الشعرية الأخرى ، حتى وقتنا الراهن.
وربما سيند ـ عبر نزعة المنافسة ، أو ما هو أبعد سلوكياً منها بين المبدعين في شتى المجالات ـ أن يستدرجنا الأمر لتناول قضية ـ قد تبدو للبعض جانبية الاهتمام ـ تلك المتعلقة برسوخ الوجود المتعين بالفعل للمبدع الرائد ، والمسعى الدائب لدى الآتين بعده لتجاوز منجزه عبر مشروعية ذلك التجاوز التي هي بعض سمات الطموح الإنساني وقيمه. ولكن ذلك الأمر مشروط بالإنجاز المضاف بجديته وجديده ، لا بالادعاء ورغبة التغييب التي تحيل المسعى وكأنه مكابدة من عقدة الوجود الخلاق لذلك الرائد ، وهو ما يلمسه من يراجع تناولات بعض الشعراء للسياب ، ولاسيما حيت يكون السؤال عن المتحقق الشعري الذي صنعوه بعده.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة
عام

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة

حاوره/ القسم الثقافيولد المترجم عباس المفرجي بمنطقة العباسية في كرادة مريم في بغداد، والتي اكمل فيها دراسته الأولية فيها، ثم درس الاقتصاد في جامعة الموصل، نشر مقالاته في جرية الجمهورية، ومجلة الف باء، قبل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram