اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > تمرٌ ولبنٌ وزبدةٌ وبلاَّمةٌ متعجّلون

تمرٌ ولبنٌ وزبدةٌ وبلاَّمةٌ متعجّلون

نشر في: 29 ديسمبر, 2015: 09:01 م

بعد صلاة العشاء بقليل طرقتَ البابَ عليَّ، كنت أظن أنَّ لامَّةً المّتْ بكَ. ففزعت اليك بما في قلبي من خوف عليك، وأنا أتعثر بكدس الخوص عند العتبة. قلتَ بأن البلّامة، جلّهم من عرب الكارون والمحرزي، دخلوا نهر السَّراجي مع المدّ، وهم يأملون أن نكمل تحميل الصناديق أول الجزر، ذلك أيسر لهم، وانَّك، وحيدُ من الاشقاء والأبناء، غيرُ قادر على تحميل مئة مَنٍّ مِنَ التمر وحدك. وقبل أن تكمل المعاني دِلالتها بلسانك جئتك بإخوتي وأبنائي، تحزمنا معك، فكنّا سلسلة رجال أقوياء محبّين، مددنا اجسادنا حبلاً بدايته كدس الصناديق ونهايته العنبار المظلم . وحين كنت تنشغل بفتيل اللوكس، تضيء النهر والجوخان من حولنا، كنا حشدا من أيادي سمراء لا تنفك تحمل الصندوق والصندوقين. لا لم يكن صندوق التمر آنذاك من البلاستيك، كما هو اليوم، كانت الصناديق كلها من الخشب الماهوجني الخشن. وفي بحر من ساعات قليلة صارت أرض الجوخان قاعاً صفصفا، خاليةً من صناديقه، وسوى التي أسفل فراش الناطور لم نبق منها شيئاً. لقد ملأنا عنابر المهيلة بمئةِ مَنٍّ مِنَ التمر الحلاوي.
ها نحن نرفع قنطرة الخشب عن الجرف، سحبها البلّامة المتعجلون الى جوف المهيلة، وعن شجرة التوت العملاقة، قرب الشريعة، نزعنا حبل القنب الغليظ، رميتُ به اليهم، ومثل وحش من خشب ضخم تمايلت السفينة وسط الماء، الذي بدأ ينحسر مع الجزر. وحين كان أصحاب المهيلة(البلّامة) يلوّحون مودّعين، كانت أدعيتنا لهم بالسلامة والرزق تتعقبهم حتى الجسر، ولأنَّ الفجر ما زال بعيداً، تعجلنا العودة للبيت، قلت لنأكل شيئاً، أدخلتنا بيتك ،زوجتك وصغارك نيام، أخرجت لنا طبق الرطب واللبن، هل كان الخبز بائتاً. نعم وبارداً ايضاً، لكنَّ طعمه معك وفي بيتك كان بحلاوة الرطب، بطعم اللبن والزبدة، بطعم الفرح الذي كانت تفيض به عيناك.
خصٌّ من سعف، بإطارين باليين من القصب، هو كل ما يفصل بستاننا عن بستانك، تهبُّ الريح فيساقط تمرُ نخلاتنا عندك، وتهب ريح مثلها فتسقط تمرك في بستاننا، وتمتد سبّاحات العنب وترتخي ثقيلة عذوق البرحي وتطول عراجينها لتلتف وتتهدل على اغصان التوت المتشابكة في بستانك. نزرع اليقطين والبوبر( القرع الأحمر) والقثاء فلا نخشى له نهاية عندك، لأن الماء الحلو والشمس والدفء والظلال مشتركات بيننا. قلتُ لك: أنا لا أتبين البطيخة الكبيرة هذه، وأشرت ُ لشبه جذع أصفر بيننا، هل أنبتّها أنت أم هي نابتة عندي، فضحكتَ. كأنك لا تجد نهاية لها عندك، كأنني لا اجد بداية لها عندي. ومن فتحة في الخصّ الذي صار يميل جئتني بزنبيل الخوخ، كانت رائحته تضوع مثل رائحة المحبّة في قلبك، مثل دمعة السرور في عيني. قلتَ بأن أشجار الخوخ التي غرستها في ربيع العام الماضي أثمرت خوخا كثيراً، هي من النوع الذي تحبّه أنت (أبو خد وخد). الحبّة منه بخدّين، أحمر وأصفر. أما الطعم فهو بطعم صباح يوم العيد، وأنت تقف بانتظاري. دشداشتك بيضاء ويشماغك أحمر، وقد أجمعنا على أن ندخل المسجد معاً، أكنتُ أنا عن يمينك أم كنتَ  أنت عن يميني.
يتعجلنا الناس بالتحية والسلام ونتعجلهم بفتح أبوابنا، أخذتُ عنك صينية الطبيخ واللحم واخذتَ عنّي طبقَ الخبز وحقَّ اللبن، وقبل ان يفرش ابني سفرة الخوص الطويلة، قال أحدُهم بأنه لا يحبُّ اكل العيد داخل البيوت، بين الحيطان حتى وإن كانت من الطين والقصب، فحملنا الطبيخ واللحم والخبز واللبن والتمر والبصل واهلّة البطيخ وسلة الخوخ خارج البيت، فرشها ابني على حافة النهر. قرب شجرة الأجاص الكبيرة. أكان الوقت صيفا، لا أظنه كذلك. كانت ريح باذخة بعطر الطلع وازهار الدفلى تأتي من جهة شط العرب الكبير، ومثل شيء من سحاب متقطع غمرتنا الظلال ونأت الشمس. تقول فأؤمّنُ عليك:  أكان ربيعا لم ندّخره من قبل بين أشجارنا، أكان صيفاً تراجع حيياً بين أيدي ضيوفنا في عُطل من الظلال، أكان شتاءً قمعته شمس متعجلة، خدعه لقلق متأخر على المنارة ؟ نضحكُ. ومن فرجةٍ بين شجرتي الآس، بدا لك واضحا أنَّ النار التي تستعر في الموقد ستأتي بالشاي لا محالة. ستأتي به قبل إبريق السبع مايات ، قبل ضوع بخور العود ورائحة ماء الورد وعصير الرمان.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram