TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > الحاضرة في العراق.. مدن بلا حدائق

الحاضرة في العراق.. مدن بلا حدائق

نشر في: 9 يناير, 2016: 12:01 ص

تنجز الحديقة العامة في المدينة عمل الرئة التي تتنفس بها المدينة ومجتمعها، فاذا ما أصيبت هذه الرئة بشيء ما يفقدها كفاءتها في الاداء، أصيبت المدينة بضيق التنفس لينتقل هذا الشعور الى ساكنيها. لعله ليس من العسير على المرء ، متخصصا ً كان أم لا ان يعرف أو

تنجز الحديقة العامة في المدينة عمل الرئة التي تتنفس بها المدينة ومجتمعها، فاذا ما أصيبت هذه الرئة بشيء ما يفقدها كفاءتها في الاداء، أصيبت المدينة بضيق التنفس لينتقل هذا الشعور الى ساكنيها. لعله ليس من العسير على المرء ، متخصصا ً كان أم لا ان يعرف أو يعرّف الحدائق العامة كفضاء حضري في المدينة، أو ما هو الدور الذي تؤديه فيها. فمن منا لم يفكر في ارتياد مثل هذه الاماكن حين يضيق به بيته وتضيق به محلته، أو حين يبحث المرء عن مكان يسع رغبته في الاجتماع برفاقه مع شيء من حرية الحركة، أو حين تبحث العائلة عن موضع تجتمع فيه بوجود عوائل أخرى، وما الى ذلك.

تعتبر الحدائق في المدينة النقيض لهيكلها الحضري المبني Urban Structure  وتدخل فيما يسمى حاليا ً بالهيكل الاخضر لها Green Structure ، وهي لاتمثل فقط ذلك الجزء غير المبني منها وأنما المخطط له ليكون متنفسا ً أخضر للمدينة ومكانا ً لاستحضار الطبيعة التي تتعرض عادة الى الاستيلاء من قبل ذلك الهيكل الحضري.
تتخذ هذه الفضاءات تسميات عدة كالحدائق Gardens أو المتنزهات  Parksأو الفضاءات العامة أحيانا ً Public Spaces أو بشيء من الخصوصية فتسمى بالساحات Yards أو الباحات Courtyards وأحيانا بالفضاءات المفتوحة Open Spaces او الفضاءات الخضراء Green Spaces ، وهي تقترب من مفهوم الساحات المشجرة Plaza أكثر من مفهوم الميادين Piazza .
المقصود هنا هي تلك الحدائق العامة المشاعة لعامة المجتمع بكل فئاته العمرية ( البالغين وكبار السن والاطفال والمراهقين وغيرهم), وبغض النظر عن الجنس ( الاناث والذكور)، والحالة الصحية ( لتشمل ذوي الحاجات الخاصة)، والغرض منها الاستراحة والقيام بفعاليات أخرى متنوعة يصعب القيام بها خلال النسيج الحضري المبني للمدينة والتي قد تدخل تحت عناوين الاستجمام والترفيه  Recreation & Entertainment .
فماهي المشتركات التي تختص بها هذه الفضاءات الحضرية، والتي سنعود لها ، ولكن قبل ذلك ماهي الاهداف التخطيطية التي توضع من أجلها هذه الحدائق؟ وماهي الاسباب التي تبدو مقنعة لاستقطاع أجزاء مهمة وحيوية من المدينة لاغراض تبدو غير مقنعة من ناحية الجدوى الاقتصادية لها؟ فغالبا ً مايتم انشاء هذه الحدائق في نقاط مركزية من المدينة هي الاعلى قيمة ً والتي من الممكن استثمارها بطريقة مختلفة جدا ً. فما هو االدافع الى خلق هذه الفجوات الخضراء الهادئة داخل هيكل المدينة الرمادي المتضام وربما الصاخب؟
لقد استقطعت مدينة نيويورك منذ عام 1858 مساحة من قلبها Manhattan وبإشراف المخطط والمعماري Frederick Law Olmsted  لتمنح المدينة متنزهها المركزي Central Park بما يزيد على 3 كيلو مترات مربعة ( أي ما يزيد على 1300 دونم او مايعادل ثلاثة أضعاف مساحة متنزه الزوراء في بغداد). يصل سعر المتر المربع في هذا الجزء من المدينة – وهو الاغلى تقريبا ً على مستوى العالم – الى مايزيد على 15000 دولار مما يجعل القيمة الكلية لارض هذا المتنزه تعادل ثروة مهولة تقدر بمايزيد على 50 مليار دولار. ويتضمن المتنزه المركزي لنيويورك بالاساس الفعاليات الترفيهية والرياضية وماشابه.
وهنا يتبادر الى الذهن سؤال حول الغاية التي تدفع بمدينة تعد هي المركز الاقتصادي الاول في العالم الى تحويل قلبها الى متنزه ومكان غير انتفاعي لايدر عليها أموالا ً كالتي تدرها عليها مراكزها التجارية المجاورة.
ولايقتصر الامر على مدينة نيويورك ومتنزهها المركزي فهناك مايماثله سعة ووظيفة في مدن أخرى كمتنزه هايد بارك  Hyde Parkفي لندن ( 2.5 كم مربع) و متنزه ستانليStanley Park   في فان كوفر الكندية ( 4 كم مربع) ومتنزه Tiergarten في برلين ( 2.1 كم مربع) وغيرها، فما الذي يدفع هذه المدن الى تحويل أجزاء مهمة من مراكزها الحضرية الى حدائق ومتنزهات عامة؟
لقد أدركت هذه المدن ببساطة أن الفضاءات الخضراء المفتوحة لاتقل أهمية عن الاجزاء المبنية فيها، وأن الهيكل الحضري فيها Urban Structure لكي يبقى حيا ً لابد من وجود الهيكل الاخضر  Green Structure. وأن المدينة قد تختنق بمبانيها أن لم تجد لها متنفسا ً تستنشق فيه هواءا ً نقيا ً من خلال حدائقها ومتنزاهتها التي هي بمثابة الرئة التي تتنفس بها المدينة. ومن جانب آخر فإن حدائق المدن هي محاولتها لاعادة الطبيعة التي فقدتها أثناء نموها وتوسعها. وقد أثبتت الدراسات المتكررة – كدراسات كابلان كابلان – أهمية الطبيعة في الحفاظ على التوازن النفسي للمدينة ولساكنيها وقدرتها على امتصاص الضغط والاجهاد والتوتر التي تسببها تعقيدات الحياة المعاصرة وتبعاتها.
بالاضافة الى ذلك فإن هناك الكثير من الفعاليات الاجتماعية كاجتماع العوائل، والترفيهية كقضاء أوقات الفراغ وأيام العطل، والرياضية كالجري واجراء التمارين، والتعليمية كملاحظة الطبيعة والنباتات والكائنات الحية وخاصة تلك التي لاتنتمي الى نفس البيئة والكثير غيرها من الفعاليات التي لايمكن انجازها خلال الهيكل الحضري للمدينة في حين تنجز وبكفاءة عالية في حدائق المدن وخصوصا ً العامة منها.
ولحدائق المدن منافع أخرى لامجال لذكرها هنا.
فما هي خصائص هذه الحدائق وخاصة المشتركة منها في محاولة لتطبيقها على واقع الحدائق في مدن العراق وفيما اذا كانت هذه المدن في الواقع تمتلك منها ما تملكه مدن العالم المتحضر وغيره؟
ان أول خصائص هذه الحدائق العامة يتأتى من عنوانها كونها عامة أي مشاعة للجميع بلا استثناء وأنها حق لعامة المجتمع لاتختص بأحد، ويقود هذا الامر بدوره الى عدد من الملاحظات التي ينبغي توفرها في هذه الاماكن كي تتمتع بهذه العمومية منها:
- ان المجتمع بكافة فئاته له الحق في استخدام هذه الاماكن وأنها لاعلاقة لها بموقعها في المدينة بل لاعلاقة لها حتى بالمدينة ذاتها ولعلنا نلحظ هذا الامر عندما يتعلق الامر بحديقة عامة كزوراء بغداد فهناك الكثير ممن يزورها من كافة أنحاء بغداد بل وحتى من محافظات أخرى
– أتذكر جيدا ً كيف كانت مدارس المحافظات الاخرى تنظم سفرات طلابية لمتنزه الزوراء بين حين وآخر.
- أن عمومية هذه الحدائق والمتنزهات يفترض أن تكون مشاعة زمنيا ً أيضا ً وليس مكانيا ً فقط، أي أن مسألة تحديد أوقات معينة لفتحها وغلقها يتعارض بشكل واضح مع هذه العمومية. ويمكن القول أن هذا الامر يفتقد بشكل تام في كل حدائقنا العامة فللزوراء مثلا ً أوقات معينة تغلق بعدها أبوابها كأية دائرة رسمية قد انتهى موعد العمل فيها.
- تتعارض مسألة فرض رسوم الدخول مع عمومية هذه الحدائق. لا يبدو أن هناك حدائق عامة في اغلب بلدان العالم وربما كلها من تفرض رسما ً للدخول كالذي يفرضه متنزه الزوراء وأن كان زهيدا.
- ان عمومية هذه الحدائق تفترض أن تكون حدود هذه الاماكن مفتوحة أمام مستخدميها ولا معنى للحدود والاسيجة والعوارض التي تحيط بها الا بقدر الحفاظ على سلامة المستخدم داخلها. أما مبررات البلديات في منع دخول الحيوانات والمدمنين فهي واهية وغير واقعية وعادة ماتدار هذه الاماكن بطريقة مختلفة عما تعودنا عليه.
لقد أصبحت الاسيجة المرتفعة القبيحة والفجة مظهراً ملازما ً لكل الاماكن العامة في العراق وخاصة الحدائق، وأن مسألة ازالة ورفع هذه السجون يتطلب ثورة لتغيير ثقافة البلديات وموظفيها وتعنتهم قبل تغيير ثقافة المجتمع نفسه.
- تفترض عمومية هذه الاماكن أن تتم ادارتها وصيانتها بشكل مستمر ودوري من قبل الدولة باعتبار أنها جزء من النظام الضريبي ومن نظام الخدمات الواجب توفيرها من قبل الدولة للمجتمع.
من الخصائص الاخرى لهذه الحدائق العامة هي أن تكون جزءا ً من الهيكل االاخضر للمدينة وان يكون الطابع الاخضر لفضاءاتها Green & Soft Landscape  هو الذي يهيمن، أما الجانب الصلب منه Hard  Landscape فقد يكون ملائما ً لاماكن أخرى غير هذه. ان الهدف من خلق هذه الفضاءات هو اعادة االطبيعة المفقودة الى النسيج الحضري للمدينة، وكلما زادت القسوة في تكوين هذا النسيج كلما زادت الحاجة الى االعودة الى الطبيعة النقية ، ولعل هذا ما يفسر بشكل ما ضخامة المقياس واتساع المساحة في المتنزهات في كبريات المدن وذلك لايجاد بيئة طبيعية قادرة على فصل المرء ولو لفترة بسيطة عن محيطه الحضري المليء بالزحام والضوضاء والاجهادات المتنوعة. ولذلك تسعى االكثير من الحدائق العامة الى التخلي عن المنشآت المبنية وتتبنى عناصر الطبيعة النقية لضمان هذا الهدف. واذ تفشل الكثير من الحدائق العامة في العراق، بل كلها في الوصول الى هذه الغاية فإنها تفقد واحدة من أهم خصائصها لكي يصدق عليها مفهوم الحدائق.
تركز الحدائق العامة حاليا ً على توفير الاجواء اللازمة والاثاث المناسب لخلق فضاءات تمنح الفرد الفرصة لاستعادة أنفاسه وأفراغ ذاكرته المثقلة بالهموم اليومية وربما الى التأمل Meditation وأحيانا ً الى ممارسة رياضات روحية كاليوغا بغض النظر عن الرياضات البدنية كالمشي والهرولة والعدو. هذه الاجواء التي تنعدم تماما ً في كل حدائقنا العامة بلا استثناء.
من الخصائص الاخرى التي ينبغي أن تتمتع بها هذه الاماكن هي سهولة الوصول اليها ولعل هذا شأن جميع المرافق الخدمية في المدينة فلكي تكون خدمة عامة ينبغي أن تكون متاحة للجميع دون الحاجة الى وسائل نقل معينة. واذا ما استوجب الامر اللجوء الى ذلك خرجت هذه الاماكن من مفهوم الحدائق العامة المقصودة هنا كالجزيرة السياحية في بغداد.
لقد تبنت مدينة مالمو في السويد مشروعا ً بسيطا ً لتيسير الوصول الى الطبيعة المحيطة بالمدينة من خلال توفير حافلات مجانية لايصال الناس منها وأليها خلال نهاية الاسبوع.
تثـقل مدننا في العراق حاليا ً بكم لايطاق من المشاكل البيئية والنفسية ونقص في الخدمات ولاتساهم الفضاءات الخضراء وبالذات الحدائق العامة بشكل من الاشكال في تخفيف هذه المشاكل أو حلها، وفي مناسبات معينة يتحول الوصول الى هذه الاماكن الى مشكلة كبرى تضاف الى مشاكل المدينة تلك. فعادة ما يتحول وصول الناس الى متنزه الزوراء خلال أيام الاعياد الى معضلة تجبر ادارات المرور على قطع الكثير من الطرق الاخرى المجاورة له فيتحول المتنزه والمنطقة المحيطة به الى فجوة مرورية مزعجة ضمن نسيج المدينة العام.
أن قلة وضيق الحدائق العامة في مدن العراق، وكثرة المحددات والعوائق فيها، وصعوبة الحصول على جو هاديء فيها، و ضعف الصيانة فيها يحيل حواضرنا الى مدن بلا حدائق.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. هند كامل

    نورسُ بحرٍ من عدنٍ ظلّ .. وهامو يهبط بيننا.. يا سيدي أحطت .. فأجملت .. فأجدت أحطت الموضوع من جميع زواياه .. فأجملت الأسباب في حواضرنا الجرداءولربما هناك سبباً آخر هو تصحر المشاعر .. فأجدت الطرح الشيق .. أعشق حرفك و أتوحد مع كتاباتك ..

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram