TOP

جريدة المدى > عام > أجل.. هناك أزمة شعر في العراق..أين "قصيدة النثر" من جماليات الشعر الحر!

أجل.. هناك أزمة شعر في العراق..أين "قصيدة النثر" من جماليات الشعر الحر!

نشر في: 12 يناير, 2016: 12:01 ص

ليست "قصيدة النثـر" بالشيء الجديد على الثقافة العراقية، والعربية عموماً. فقد كان هناك منذ الأربعينات أو قبلها ما يماثلها وهو ما يسمى بالخاطرة، المعروفة في الصحف والمجلات الصادرة آنذاك، وكان لها كتّابها المتميزون وقراؤها أيضاً. والفارق بين الاثنتين، ق

ليست "قصيدة النثـر" بالشيء الجديد على الثقافة العراقية، والعربية عموماً. فقد كان هناك منذ الأربعينات أو قبلها ما يماثلها وهو ما يسمى بالخاطرة، المعروفة في الصحف والمجلات الصادرة آنذاك، وكان لها كتّابها المتميزون وقراؤها أيضاً. والفارق بين الاثنتين، قصيدة النثـر والخاطرة، أن الخاطرة واضحة المعالم في العادة ويمكن أن تكون رومانسية، وخفيفة الظل، وعميقة. أما قصيدة النثـر، فهي في الغالب ملتبسة، وثقيلة الظل، أو سطحية. والغريب أنها تكون مقنعة، أو مقبولة، بالنسبة لي، في الأقل، كلما كانت أقرب إلى الخاطرة من ناحية المضمون، أما في الشكل فهما تقريباً شيء واحد.                   
                            
                                     
وكان الشعر قد شهد في الأربعينات طفرة فنية أساسية في المضمون والشكل اقتضتهما التطورات الفكرية والنوعية  الحديثة لقضايا الإنسان المعاصر مما لم يعد التعبير عنه ممكناً بطريقة الشعر العمودي الذي كان بدوره ملائماً في حينه لقضايا و هموم الشاعر العربي القديم. ولهذا حدث التغيير في أغراض الشعر وعدد تفعيلاته ليكون في مقدور الشاعر التعبير بحرية والحفاظ على الوزن في الوقت نفسه، مع استبعاد البحور المركبة التي تعرقل انسيابية الشعر الحر.
وقد ظل هذا الشعر الحر حتى التسعينات شائعاً غالباً من ناحية النوع المقبول في الصحافة و المنابر الأدبية بوجه عام، إلى جنب قصائد النثر التي كانت تتمدد باستحياء كنقطة حبر في ماءٍ خابط. وكانت المنطقة العربية تشهد منذ مدة تحديات سياسية خطيرة وظواهر ثقافية تغريبية تمثلت بين أمور أخرى في مجلة  "الكلمة" في بغداد، وتقليد الأساليب الغربية، ومجلة " شعر"، التي أسسها الشاعر اللبناني يوسف الخال، في بيروت عام 1957 . وقد أثيرت شكوك حول هذه المجلة ومجمل النشاطات العربية الثقافية القريبة في مضمونها وأسلوب تعبيرها من الشعر الأوروبي والأميركي، واعتبرها البعض جزءاً من التوجه الامبريالي الهادف لمسخ الهوية العربية على المستوى الثقافي من الصراع  والهيمنة على المنطقة. وبالرغم من أنني لا أؤكد هذا أو أنفيه، فإن دور المخابرات الأميركية معروف ومؤكد في تخريب ثقافات الأمم المستهدفة من الولايات المتحدة الأميركية. وقد دعمت بالفعل إصدار مجلات وكتب ومنح جوائز أدبية لبعض الكتّاب في إطار نشاطها المضاد للاتحاد السوفييتي السابق، والأنظمة والمنظمات التي تناصبها الإدارة الأميركية العداء.
ويمكن بالتالي القول إن سرعة انتشار " قصيدة النثر " والانصراف عن الشعر الحر بالرغم من حرية التعبير التي يكفلها للشاعر ليست بريئة تماماً مثلما هي الحال في " النيران الصديقة " التي يمكن أن لا تكون صديقة حقاً! إذ لا يبدو هناك مبرر فني أو فكري حقيقي للانتقال إلى " قصيدة النثر " مثلما كانت الحال مع الشعر الحر بعد أن ضاقت على الشعراء (دشداشة) الشعر العمودي القديمة شكلاً و مضموناً. فما الذي ضاق على الشعراء من الشعر الحر ليخلعوه ويرتدوا " قصيدة النثر " إلا الوزن، الذي يصعب على غير الشعراء الموهوبين حقاً الكتابة به، والذي يميّز فنياً بين ما هو شعر وما هو نثر، شكلياً، في الأقل؟! أما على مستوى المضمون، فإن أحداً لا يمكنه الحكم على شعرية " قصيدة النثر " عموماً بما تتضمنه من معنى. بينما تستطيع أن تحكم بذلك على أية قصيدة من قصائد الشعر الحر، إضافةً إلى معيار الوزن.  
كما أن إطلاق اسم الشاعر والشاعرة على مَن يكتب هذه " القصيدة " تجاوز على قوانين الأدب وخلط لأوراق الكتابة الإبداعية وهو أشبه بتسمية الناقد روائياً، أو دعوة بائع الخضار بالبقّال، وشرطي المرور بالمخبر السري، بالرغم من التقارب في المهنة أو مادة التعامل اليومي! وهذا لا يعني أني أستكثر على كاتب قصيدة النثر تسميته شاعراً، لكنه ليس بشاعر مثلما أن الناقد ليس روائياً، وبائع الخضار ليس بقّالاً، وشرطي المرور ليس مخبراً سرياً إلا إذا جمع بين الشغلتين! وإذا كانت التسمية هنا ليست عائدة للشعر وإنما للشعور فإن الناس جميعاً شعراء في هذه الحالة عدا الثقلاء وأصحاب الرقاب الغليظة والصفقاء منهم، والعياذ بالله! وعلى كتّاب هذا اللون من الكتابة، بالتالي، أن يجدوا لهم التسمية التي تتفق وطبيعته، مع احترامي الكبير لعملهم الأدبي وتمنياتي لهم بالتوفيق في ذلك.
ويمكنني الاستشهاد بالكثير مما يُنشر اليوم من قصائد النثر للتدليل على خلوها  من أية صفة شعرية شكلاً ومضموناً، وكونها، في معظمها،  مجرد كلام فارغ أو " تصفيط " كلمات على نسق أبيات الشعر الحر، ويمكن لأي كاتب، أو حتى معلق رياضي أن يكتب " قصيدة نثر " وستُنشر له بالتأكيد سواء تحت باب نصوص أو شعر أو مساهمات، وفقاً لدبلوماسية محرر الصفحة الثقافية، لأن ليس هناك ما يحدد أنها قصيدة، نثرية أو شعرية، حتى بالنسبة للنقّاد أو اتحاد الأدباء بجلالة قدره!
ذلك أن تقول، على سبيل المثال، وباختصار شديد، ومع كل الاحترام للقائل :
[ لا أنسى عليوي وهو يعزف لنا سمفونية الدرس الأول
فتنساب المدرسة من موسيقاه
فهل كان نبوءة هذا الذي قالته أمي
وهي لا تعرف القراءة والكتابة
فمنذ تلك الصورة التي لم (تطلع زينة) كما تمنت أمي
وأنا لم أغادر المدرسة
ولن أغادرها. ]!
أو أن تقول :
[ ربعُ أغنية،
نصفُ رقصة،
ثلاثةُ أرباع جسد؛
ذلكَ هو سرّي الذي أضاعَ الطريقَ إلى الأبد. ]!
غير أن تقول مع البياتي مثلاً :
[ قالت : سأقتلهُ
وأحملُ رأسَهُ لقبيلتي
صنَماً ، لتعبدَهُ
وتحرقهُ ، إذا اقتتلتْ
وفي الصحراءِ أبني معبداً للحبِ
يحملُ إسمهُ
تأوي اليه الطيرُ ، في زمن المجاعةِ
أرتدي الأسمالَ
أعقرُ ناقتي
في بابِ معبدهِ أنوحْ .
قالت : سأحملهُ
إذا مرّت عصورٌ
خاتماً في إصبعي
وأنوحُ في جوفِ الضريحْ . ]
لكن الأسوأ، وليس الأسوأ على الإطلاق بالتأكيد، قول أحدهم من سبعين مقطعاً منفصلاً :
[ شارع الرشيد
مزابل
وشربت زبالة ]
بالرغم من أن الرجل، ولا بد، يرى في مقطعه هذا فتحاً شعرياً مبيناً، ولن يستطيع أحد أن يقول له هذا ليس شعراً ولا حتى قصيدة نثر، لأنه سيريه الركام الذي يُنشر اليوم على أنه شعر و" ستين شعر ". وليس هناك غير هذا الركام من معيار أو أداة فنية تقييمية تحسم الخلاف في ذلك .. إن اختلف اليوم في ذلك اثنان أو انتطحت عنزتان!
وإذا كانت الحال هكذا، فمعنى ذلك أننا نضيع ركناً أساسياً من أركان ما تبقى من الصرح الأدبي لدينا، وعلينا أن نتدارك الأمر من خلال توجه جدي يتبناه اتحاد الأدباء لمناقشة أزمة الشعر في العراق، وسبب تراجع الشعر الحر أمام الزحف الإعلامي التخريبي أو المريب لـ " قصيدة النثر " .. هل السبب يكمن حقاً في التخريب الثقافي الامبريالي، مثلاً، أم في مزاج الخيبة العام لدى الناس وانحطاط الثقافة في فترة الدكتاتورية البعثية البغيضة، أم في حالة ضياع المعايير والضوابط التي سادت العراق على مختلف المستويات، أم أن السبب يكمن في تركيبة الشعر الحر ذاته، وفي استسهال كتابة قصيدة النثر الخالية من أية ضوابط ومقومات فنية؟ أم أن المسألة كلها لا تعدو أن تكون انتقالة حضارية طبيعية اقتضاها " تطور " الإنسان العراقي الحديث على الصعيد الثقافي وإن خلت مما يدل على شيء من ذلك؟!
لقد كان الشعر الحر مفخرة الثقافة  العراقية في العالم العربي، وكان العراق يُذكر باعتزاز أينما كان مع ذكر عبد الوهاب البياتي، وبدر شاكر السياب، و نازك الملائكة، وغيرهم من الشعراء الذين تألقوا في هذا المجال وأعطوا الثقافة العراقية نكهتها المميزة و طابعها الجميل. وعلينا أن نفعل شيئاً لاستعادة تلك المكانة المشرفة ما دام الأمر ممكناً و لم يصبح حديث خرافة كأمور عديدة أخرى.  ودعونا نتميّز بشيء جميل واحد، في الأقل، وسط هذه الفوضى القبيحة من اختلاط المفاهيم، وضياع القيم، وتسمية الأشياء بغير أسمائها الحقيقية.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة
عام

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة

حاوره/ القسم الثقافيولد المترجم عباس المفرجي بمنطقة العباسية في كرادة مريم في بغداد، والتي اكمل فيها دراسته الأولية فيها، ثم درس الاقتصاد في جامعة الموصل، نشر مقالاته في جرية الجمهورية، ومجلة الف باء، قبل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram