تتأثث قاعة الشعر بما يجعل الشاعر في فضاء مريح لأداء عمله الذي هو هنا إلقاء شعره. قاعة الشعر تشبه بيت مواطن يسعى إلى الحد الأعلى أو الأدنى من مستوى حياته اليومية، من القراءة والكتابة وتناول الطعام والشراب والعناية بجسده أو عقله أو ملابسه، وسائر حاجاته الإنسانية، ككائن منتج. هذا الفضاء ليس مقتصراً على الشاعر، وحده، فهو إذا كان يختار العزلة عليه أن يقطع مع الجميع ليعيش وحيداً، أما في قاعة الشعر فهو ليس وحيدا، وعليه تحمل تبعات خياره لأنه، أما ضيف عند الآخرين (الجمهور من الحاضرين في قاعة الشعر) أو ان الآخرين ضيوف عنده، أو في حال من المشاركة في مكان عام مع الآخرين قبلها طوعاً، ويقال هنا (تفاعل الجمهور مع الشاعر أو لم يتفاعل الجمهور معه (لأن أداءه كان سيئاً) وبذا تتحقق لذة المشاركة أو لا تحقق، لأسباب عديدة منها:ضعف قصيدته. قوة قصيدته ولكنه لم يقدمها بالطريقة الصحيحة فلا تصل إلى مستمعيه. تأثيث فضاء القراءة (قاعة الشعر) بشكل سيئ، وبذوق متدنٍ لا يلبي حاجة المواطن - الشاعر ليشارك الآخرين بفضاء متقن وجميل لتتحقق تلك اللذة التى أشرت إليها قبل سطور. على أن التأثيث المطلوب، هنا، ليس ديكورا متبطراً ولا فائض عن الحاجة، بل هو تدبير مقتصد يقوم على ما يفي بالغرض الأساس: تقديم قصيدة جيدة إلى متلقٍ جيد وسط فضاء إلقائي جيد. في مثل ظروفنا الفقيرة، في العراق أو خارج العراق، منفيين أو مغتربين، سنقنع بالقليل، ولا نحلم بقاعة ذات مواصفات خاصة، كتلك التي تعزف فيها أشهر السمفونيات العالمية في فيينا. في قاعة النادي الثقافي النفطي حيث قرأ الشعراء قصائدهم، في دورة المربد الحالية، بالبصرة، لم تكن قاعة الشعر مناسبة في الحد الأدنى من مواصفات قاعة للشعر، إذ أن أفضل القصائد التي حاول شعراؤها أن يقدموها بأفضل ما يملكون من لعبة الإلقاء، لم تصل إلى جمهور الحاضرين، ومن هذا الجمهور ثمة متلقون جادون، شغوفون بالشعر ومتلهفون للاستماع إلى شعرائهم، المعروفين منهم وغير المعروفين، ومتشوقون إلى أن تتحق انتظاراتهم لتلك اللذة التشاركية المنشودة، فأين المشكلة؟عدا مزاج الحضور البصري المتوتر بسبب سوء ظروف العيش والخدمات والانكسارات القديمة/ الجيدة في الروح والمخيلة، ثمة أسباب تتعلق بقاعة الشعر، نفسها، خصوصاً أجهزة الصوت وامتلاء القاعة بالحضور أكثر من استيعابها الطبيعي، ما خلق مشكلة جوهرية تتلخص بأهم أشكال التواصل والمشاركة بين الشاعر وجمهوره المتلقي: الصوت! الصوت، هنا، هو الوسيلة الوحيدة لـ "قراءة الشعر" صوتياً، فإذا اضطربت هذه الوسيلة، كي لا أقول "تعطلت تماما" انتفى الإيفاء بأي من وعود الشاعر لجمهوره المنتظِر. ثمة ضجيج قاسٍ على الجميع: الشعراء وجمهرة الحاضرين. تنظيم العلاقة بين الشاعر وجمهور الحاضرين جزء من تنظيم أكبر، هو تنظيم المهرجان. ثمة ضعف واضح في التنظيم وافتقار في منهج الإدارة ومهنيتها وشفافيتها ، وعندما سألت، مثلاً، عن ضعف الشعراء العرب المشاركين، لم أحظ بأية إجابة "شافية"، كما يقال، بل حظيت بإجابات "مريضة"!! ثمة شعراء، عراقيون وعرباً، ومن الجنسين، لا يستحقون حتى فرصة لإلقاء "محفوظات" في مدرسة ابتدائية، فاختلط الجميع بالجميع، بينما الشعر يقاس بالتفرد والخصوصية. الشاعر عمر السراي الذي قدمنا، في أصبوحة الافتتاح، كان على كثير من المهنية اللغوية والتهذيب والحضور حتى أنه فاق عدد غير قليل من الشعراء. وزير الثقافة والتراث والسياحة فرياد رواندزي كان على حق عندما أمر بإلغاء الكلمات السياسية الخطابية ليتيح للشعر أن يتقدم وحيداً، وبطاقته الذاتية، حسب. شكراً لاتحاد كتاب وأدباء البصرة على جهودهم المضنية في انطلاق المربد الثاني عشر، رغم مشكلات العلاقة بين بعضهم بعضاً والتي أوشكت أن تفوح "إلى العلن" للأسف. ولابد أن أقول: شكراً لبصرة السياب على كرمها وحسن ضيافتها. وتدني الشعر في هذا المربد لا يفسد لأهل البصرة... قضية. كانت أجهزة الصوت تعمل "بكفاءة عالية" بل أعلى كثيراً من النبرة الهامسة لقصيدة حزينة أو سعيدة، وكانت تلك الكفاءة مصحوبة بصدى شوّش كثيرا على الصوت.. والجمهور "المحتشد" ليس "شعرياً" بالضرورة، فكثيرون ممن حضروا حضروا للفرجة، أو لرغبات أخرى. كلما ازداد العدد ازدادت فوضى العلاقة بين الشاعر ومتلقيه. الممر الرئيسي الذي يخترق قاعة الشعر، من بداية قاعة الشعر هذه حتى المنصة تحتلها كاميرات التلفزيون وعمال تأمين المشروبات الخفيفة وإداريو القاعة وبعض المواطنين.
قاعة للشعر
[post-views]
نشر في: 11 يناير, 2016: 09:01 م