أين تنتهي شخصية الممثل - الكائن، وأين تبدأ الشخصية بالبروز؟ هل ثمة خط أحمر يفصل ما بين الإثنين؟ وهل يمكن عبور ذلك الخط ذهاباً، صوب الشخصية، وجيئةً منها؟هذه هي الاسئلة التي بنى عليها المخرج الايطالي دانييلي فيكاري أحداث فيلمه «فرد لا أحد»
أين تنتهي شخصية الممثل - الكائن، وأين تبدأ الشخصية بالبروز؟ هل ثمة خط أحمر يفصل ما بين الإثنين؟ وهل يمكن عبور ذلك الخط ذهاباً، صوب الشخصية، وجيئةً منها؟
هذه هي الاسئلة التي بنى عليها المخرج الايطالي دانييلي فيكاري أحداث فيلمه «فرد لا أحد» (متوسّط الطول بـ 50 دقيقة) والذي عُرض ضمن برنامج «آليتشي نيلا تشيتّا» المستقل، والمقام على هامش الدورة العاشرة لمهرجان روما السينمائي الدولي، والمُنجز برفقة طلبة معهد التمثيل السينمائي الذي يحمل اسم النجم الايطالي العالمي الراحل جان ماريّا فولونتييه. ويأتي الفيلم، ربّما، صورة حقيقية للمنهج الذي كان يتّبعه جان ماريا فولونتييه، في أداءاته للأدوار التي برز فيها خلال سني حياته السينمائية والمسرحية، إذْ كان فولونتييه يتحوّل إلى الشخصية التي يؤديها في تلك اللحظة، وكانت تلك الشخصيات تحتل مجمل المساحة، الجسدية والذهنية، للكائن فولونتييه، كما روى لي، في حوار خاص، المخرج الايطالي الكبير جوليانو مونتالدو الذي أدار فولونتتيه في فيلم «جوردانو برونو» وكما يتذكّر النجم إينيو فانتاستيكيني، الذي عمل في فيلم «الأبواب المشرعة» لجانّي آميليو.
وفيما أُحيلكم إلى نهاية هذا المقال بخصوص رواية فانتاستيكيني، اذكر لكم ما رواه لي جوليانو مونتالدو.
يقول مونتالدو:
«كنّا نصوّر فيلم «جوردانو برونو» 1973 - الراهب الفيلسوف الذي ساجل الكنيسة واتُّهم بالهرطقة وأُحرق حياً في ساحة «كامبو دَيْ فيوري» في روما.
كان جان ماريّا يؤدي دور جوردانو برونو. وكنت قد خلدت الى النوم في غرفتي مع زوجتي بعد يوم مهلك من العمل في موقع التصوير. وبينما كنت غارقاً في النوم شعرت بأحد يحرّك قدمي بعنف حتى يوقظني. كان ذلك جان ماريّا. فصرخت به:
- «ما الذي تفعل هنا؟ في هذه الساعة؟ وكيف دخلت غرفتي؟»
-«أقنعت حارس الفندق الليلي ففتح لي الباب»
- «أتعلم كم الساعة الآن، وبأن علينا الاستيقاظ فجراً لمواجهة يوم تصوير اكثر إنهاكاً من الذي انتهى للتو؟»
صرخ في وجهي بصوت مخنوق حتى لا يوقظ زوجتي:
- «اللعنة جوليانو كيف بإمكانك أنْ تخلُدَ إلى النوم وأمامنا كل ما ينبغي تصويره في الغد؟!»
أدركت حينذاك بأن من يخاطبني في تلك اللحظة هو الشخصية وليس جان ماريا الكائن، فهدّأتُ من روعه وجلست أناقشه في المشاهد الى ساعة متأخرة.. وحين أفقت في الفجر في الساعة المحددة، عثرت على جان ماريّا فولونتييه، ممدداً على سريري عند قدميّ وقدميْ زوجتي..".
وفي فيلم «فرد لا أحدْ» لدانييلي فيكاري نجد أنفسنا أمام حالة شبيهة ، إذْ يسعى مدرّب التمثيل في المعهد المسرحي إلى دفع ممثليه الشباب الثمانية (أربع شابات واربعة شباب) إلى استخراج ما في دواخلهم من مكنونات ومن خصائص شخصية للوصول الى حالة الانفصال الكامل من الشخصية الحقيقية والتحوّل الى الشخصية المؤداة.. فهل ذلك ممكن؟ وهل ما يذرف الممثل او الممثلة من دمع او يتصبّب منه من عرق هما نتاج الحرفة، أم ان شيئاً ما في الداخل انطلق وأساح ما في المآقي او في العروق من دمع وعرق؟
تقول إحدى الشخصيات في الفيلم:
«نحن الممثلين مدرّبون لأن يُنظر إلينا وتُرى الشخصية من خلالنا، وحتى الزملاء الذين في المشهد، ينظرون الينا ويتعاملون ليس معنا كأشخاص حقيقيين، بل كشخصيات، تُحبّ وتُكره، تُداعب، تُقبّل وتُصفع وتُركل، وربّما تُقتل..».
لكن السؤال:
كم يبقى من الممثل الكائن- الفرد بعد كل أداءٍ لشخصية ما؟
ومن هو الذي يعود الى المنزل ليلاً؟ الممثل أم كائن جديد ولد من امتزاج الفرد بالشخصية؟
أم أن من يعود إلى المنزل هو الشخصية بحد ذاتها؟
هنا اورد ما رواه الممثل إينيو فانتاستكيني عن جان ماريّا فولونتتيه خلال تصوير فيلم «الأبواب المُشرعة»، للمخرج الإيطالي الكبير جانّي آميليو.
يقول فانتاستيكيني:
«كنّا نصوّر فيلم «الأبواب المُشرعة» لجانّي آميليو، وكنت أؤدي في الفيلم دور عرّاب مافيوي وقع في يد العدالة، وكان جان ماريّا فولونتييه، يؤدي دور القاضي الذي يُحقّق مع المافيوي. كنت سعيداً بهذا العمل، ليس لأهميّته فحسب، بل لأنه كان سيُتيح لي فرصة لقاء متواصل مع المايسترو فولونتتيه، الذي طالما أُعجبت به.
لكن، ومنذ اللحظة الأولى وحتى نهاية التصوير لم يتبادل معي فولونتييه كلمة واحدة خارج نص العمل، كما أنه لم يبتسم في وجهي ولم يستجبْ لأية محاولة منّي للتقرّب إليه والحديث معه. ذُهلت من ذلك وبقيت حائراً استعيد كل لحظة لاكتشف ما الذي اقترفت لأواجه بهذا الجفاء المبهم وغير المقبول. لكن، رُغم ذلك لم أتمكّن من الغضب عليه، وبمرور الأيام اعتدت الحالة».
ويُضيف
«كنت مستغرباً للغاية، لكن الاستغراب اصطبغ بدهشة وذهول كبيرين حين رنّ هاتف غرفتي في الفندق الذي كنت أقيم فيه، وحين سألت من المنادي؟ جاءني الصوت الذي لم يكن ليخطر على بالي في تلك اللحظة:
- «أنا جان ماريّا.. فولونتييه!! ما الذي تفعله الآن .. في هذه اللحظة؟»
تلعثمت، وأجبت:
- «لا شيء حقاً، كنت أفكر بالذهاب لتناول بيتزا في أقرب مطعم واعود لأخلد الى النوم..»
لم يتأخر ردّه، وقال لي:
- «حسنٌ، إترك البيتزا الليلة، تعال هنا، عندي. أُعدّ الباستا مع الفاصوليا، ولنتعشَّ معاً.. سأنتظرك".
وأغلق الهاتف.. ذهبت إليه واستقبلني بحفاوة لم يكن لي أن أتوقّعها ابداً، بعد اسابيع من القطيعة التي صارت تعذيباً يومياً لي. فقرّرت أن أكتشف الوضع وما الذي يحدث. قلت له:
- «مايسترو.. أعذرني.. لن اتناول العشاء معك ولن احتسي الكأس إذا لم تشرح ما حدث، فقد عاملتني بقطيعة جافّة طيلة فترة التصوير، واليوم تدعوني على العشاء على مائدتك على صحن أعددته بنفسك.. فما الذي جنيتُ سابقاً، وما الذي تغيّر الآن؟!».
نظر إليّ مليّاً وابتسم
- «قلت، أنني عاملتك بجفاء أثناء التصوير، واليوم أدعوك على العشاء على مائدتي!»
- «نعم، هذا ما حدث!»
- «أنت على حق يا صديقي إينيو في كل ذلك، لكن فاتك أمر.. »
حِرْتُ جواباً، فعاجلني
- «أيّ دور كنت تؤدي في الفيلم»
- «كنت عرّاب مافيا!»
- «وأي دور كنت أؤدّي أنا؟»
- «كنتَ القاضي الذي يُحقّق معي!»
- «وإذاً!»
- «…»
- «أنظر، إينيو، خلال تصوير الفيلم كنّا نقف على جبهتين متناقضتين.. كنتَ خصمي، وكنتُ خصمَك، لذا لم يكن لي أن اتعامل معك بود وصداقة.. أما الآن فقد انتهى التصوير، ونحن زميلان، وقد نتحوّل إلى صديقين..»
-«…»
-«لكن يمكنك تخريب هذه الصداقة الممكنة قبل ميلادها إذا ما تسبّبت، بتساؤلاتك هذه، تخريب ما أعددت من الباستا - فاصوليا.. استمتع وتلذّذ و.. سالوتا»، أي أشرب نخبك..
"ضحكت ملء شدقيّ”
يقول إينيو فانتاستيكيني
- «سالوتا مايسترو» وذقت طعامه الشهي.
ويواصل الممثل “في تلك الأمسية أدركت مسبّبات سلوكه الغريب اثناء التصوير.. كنّا عدوّين لدودَين، لذا لم يكن ممكناً أن يكون ودوداً معي، لكني، صدقاً، لم استوعب ابداً كم كان بمقدوره ان ينغمس في الدور الذي يؤدّيه.. وكم كان يخرج منه بعد الانتهاء من أداء الشخصية. شخصياً لن أتمكّن من ذلك على الاطلاق.. لا الآن ولا في المستقبل..».