ينشغل برلماننا وكتله السياسية، منذ أكثر من عام، بالدوران في حلقة مفرغة اسمها "التوافقات السياسية". والأغرب أن كل هذه الاطراف تُصر، بعناد فريد، على البقاء داخل هذه الدوامة رغم المستجدات الأمنية والسياسية التي تزامنت مع أسوأ أزمة مالية يشهدها العراق منذ حقبة التسعينيات.
فقد ألزمت الكتل السياسية نفسها بسلسلة من الاتفاقات التي لم تتزحزح أبداً عن سلم أولوياتها، حتى مع إلحاح بعض الملفات الساخنة كالحرب مع داعش، وتفاقم معاناة النازحين، وتوتر علاقاتنا مع الجوار المتربص والمتفرج على أوضاعنا.
أحدى هذه الالتزامات، التي ينشغل الطيف السياسي بالتفاوض حولها منذ عقد من الزمان، هي المصالحة الوطنية. فقد أنفقت الكتل وقتاً طويلاً للحديث عن ضرورة المصالحة، وأهميتها، ولم يتخلف أي حزب او كتلة عن إطلاق المبادرات والأوراق وعقد المؤتمرات التي تدور حول المصالحة ومشتقاتها، لكنها بقيت حبراً على ورق بعد أن أطل شيطان التفاصيل برأسه.
ورغم الفشل المتكرر لمشاريع المصالحة، وإخفاقها بالتحول الى واقع اجتماعي، فإن الكتل البرلمانية تصرّ على ربط أيّ تقدم سياسي او أمني بهذا المشروع الغامض على مستوى العناوين والتفاصيل. والنتيجة أن وزارات وهيئات حكومية تخفق مذ ذاك بكسر هذه الدوامة التي تُطبق على العملية السياسية، وتمنع من انتقال البلاد الى استحقاقات التنمية والتحول الديمقراطي.
مازالت الاطراف السياسية تناقش، خلال اجتماعاتها المشتركة، قوائم المطالب ذاتها التي تتبادلها منذ عقد من الزمان. تتقدم المصالحة الوطنية أو يتأخر اجتثاث البعث، حسب أولوية كل دورة برلمانية.
لم تجرؤ الكتل، حتى هذه اللحظة، على الخروج من صندوق الافكار التقليدية، واجتراح حلول خلّاقة لتحقيق "برامجها السياسية"، إن كان ثمة برامج طبعا!. وبدلاً من الركون الى الجمود السياسي، عندما يفشل التقدم في ملفات المصالحة الوطنية والحرس الوطني وغيرها، كان على الاطراف السياسية السعي لتحقيق مقاصد هذه الملفات دون التوقف عند العناوين الاشكالية والمستهلكة.
فإذا كانت المصالحة الوطنية تهدف الى ترسيخ صيغ التعايش وحماية النسيج المتنوع، ومواجهة أي مظهر من مظاهر التقسيم والتأزيم الاجتماعي والسياسي، فان هذا الهدف مازال متاحاً عبر تشريع سلسلة قوانين تفضي بالمحصلة الى تحقيق المصالحة، ولكن بأدوات ناعمة تجعلها قابلة للتمرير بعيداً عن المعارك السياسية.
وبدلاً من الإصرار على إعادة ضباط ومسؤولي النظام السابق، وفتح الباب أمام البعث للمشاركة في الحياة السياسية، كان بالإمكان اللجوء الى تشريعات او توافقات سياسية تلزم الجميع بإبعاد دوائر الدولة عن المحاصصة، واعتماد الكفاءة والمهنية كمعايير وحيدة للتوظيف والمشاركة في ادارة الدولة.
من شأن قوانين ضامنة لتكافؤ فرص التعيين والخدمة في المؤسسات العامة، أن تمنع احتكار السلطة وتكوين اقطاعيات سياسية وحزبية داخل دوائر الدولة كما هو الحال الآن.
وبدل الاصرار على "المصالحة الوطنية" كعنوان صارم غير قابل للمرونة، كان بإمكان الكتل السياسية السعي الى تشريع قوانين تمنع التحريض الاثنو طائفي، وتجرم خطاب الكراهية تحت أي مسمى، وفرض عقوبات حازمة على من يتعدى هذه الخطوط الحمر. كان بالإمكان أيضا تقييد نشاط البرلمانيين الذين تحولت تصريحاتهم وإطلالاتهم اليومية الى وقود دائم لتأجيج الأزمات وتبديد فرص السلام التي نسعى خلفها منذ الاطاحة بالدكتاتورية.
للأسف فان جزءاً كبيراً من أزمات العراق يكمن بإصرار كتله السياسية على تجريب وصفات أثبتت فشلها أو إستحالتها. والنتيجة واحدة، وهي أننا نواصل النوم في عسل المصالحة، والتوافقات البالية.
خارج صندوق الكتل
[post-views]
نشر في: 13 يناير, 2016: 09:01 م