فقدت الدعوة للمصالحة، مفردةً ومفهوماً ومصطلحاً، كل تأثيرٍ لها لكثرة استخدامها في مناسبة ومن دون مناسبة، وأصبحت مع طائفة أخرى من المفردات والمفاهيم والمصطلحات التي لاكتها الأحزاب والكتل في العملية السياسية، فاقدة الصلاحية ومع ذلك تُصرّ الرئاسات الثلاث
فقدت الدعوة للمصالحة، مفردةً ومفهوماً ومصطلحاً، كل تأثيرٍ لها لكثرة استخدامها في مناسبة ومن دون مناسبة، وأصبحت مع طائفة أخرى من المفردات والمفاهيم والمصطلحات التي لاكتها الأحزاب والكتل في العملية السياسية، فاقدة الصلاحية ومع ذلك تُصرّ الرئاسات الثلاث على تداولها والتلويح بها، وكأنها إيقونة وبلسماً للشفاء من الأزمات المتفاقمة التي تطحن العراقيين وتدفعهم الى حافة اليأس واللاجدوى
وقدخَبِر العراقيون طوال سنوات الأمل والفقدان ، كل الصيغ والاشكال المقترحة للمصالحة ، بعيداً عن مفهومها الحقيقي ، حتى أن دعاتها كادوا ان يُحرموا الشعب من معجون الطماطة بتحريفه وتحويله الى معجون المحبة في أحد كرنفالات المصالحة المثيرة للسخرية، لعل الناس تعتاد على النحت الجديد لمادة غذائهم الأساسية ونسيان ما جارت به الأيام على زراعة الطماطة العراقية وشقيقاتها الأخر، بعد أن غزت الوافدات البلاد من خلف الحدود
يتوهم ساستنا وقادة دولتنا اللادولة، إذ يعتمدون على ما أستقر في لاوعيهم من أيام الدراسة الابتدائية ، ما كان يردده المعلم على تلاميذه المتخلفين في متابعة الدرس في الاعادة أفادة دون أن يُدركوا انها مقولة لا تصلح لإدارة الدولة والحكومة والعملية السياسية ، كما لم يُدركوا قبل ذلك أن إيراد ذكر المعجون في الأحاديث انما يساق في مورد السخرية إذ تشير الى انها مادة تصلح لكل طبخة دون أن تتميز بالفرادة أو الهوية المتميزة
والملفت في هذا السياق أيضاً، أن إثارة قضية المصالحة والدعوة لعقد مؤتمرات لها ، تأتي دائماً بعد خراب البصرة ، حين يكون شعبنا بمكوناته وأطيافه قد دفع أثماناً باهظة في الأرواح والممتلكات، وإستنزاف المزيد من الموارد وتبديد فرص واعدة للبناء وتصحيح المسارات الخاطئة
وفي كل مرة تتجدد فيها الدعوات الى المصالحة وتجرى التحضيرات المُكلفة لها ولمؤتمراتها ، تُعاد وتكرر ذات المضامين والشعارات والأهداف ، دون تغيير حتى في الصياغات والتعابير المستهلكة ، سوى إضافة بعض الأخطاء اللغوية والصياغات الركيكة ، رغبة في التجديد وإن كان مخلاً في السياق
ورغم أن غالبية القادة هم من المخضرمين الذين خَبرو تجارب المنفى، فانهم كما تدلل تجربة مشاركتهم في السلطة ، ساهون عن دروسها البليغة ، وتراهم يمعنون في تكرار اخطاء صارت أيامها نكات يتداولها المواطنون من أفواه قادتهم ومن بين تلك الاخطاء المتحولة الى نكات وسخرية ، القوائم التي أعدتها أجهزة المخابرات السورية والسعودية والإيرانية لإختيار الموالين لهم لتأكيد مشاركتهم في مؤتمر المعارضة في بيروت في العام ، ولتوزيع الهبات والمناصب القيادية على رأس المعارضة المستعدة للزحف على السلطة في بغداد يومها خرجت قوائم الأجهزة المخابراتية وهي تضم أسماء العشرات من الموتى الذين تحولت عظام بعضهم الى رميم
والمفارقة أن تفاصيل مؤتمرات ومهرجانات المصالحة في أيامنا هذه لاتختلف من حيث التفاصيل والإحداثيات عن تلك الأيام فعوضاً عن البحث عن جوهر المصالحة في نسيج المجتمع العراقي وبين أفراده قبل مكوناته ، يتدافع القيّمون على تحقيق المصالحة في البحث عن تكوينات مسلحة وأُطرٍ حزبية وسياسية لم يكن لها وجود سوى في وسائل اعلامٍ مأجورة أو متواطئة، أو أن التطورات السياسية في البلاد تجاوزتها بعد أن فقدت فاعليتها وأنعدم دورها وتحولت إلى ماضٍ مُشتَبه به ومن بين اكثر تجليات الدعوة للمصالحة بنسخها المختلفة، التنادي لإشراك البعث في المصالحة في نفس الوقت الذي يبحث فيه البرلمان قانون تحريم البعث في الحياة السياسية
في كل مرة يُعقَدُ فيه مؤتمر للمصالحة ينضم وجه جديد الى العملية السياسية ، ليحتل مقعد وزير أو نائب أو خلافه ، ويتزامن مع النجاح الاعلامي المدوّي الذي يترافق معه في اجهزة الاعلام الموالية، بروز إطار أو شخصية تعلن رفضها لما جرى من اتفاق خياني ومواصلتها العمل المسلح في المقاومة ، بعد أن تكون قد حققت مكسباً مالياً مغرياً وحضوراً دعائياً لم تكن تحلم بهما، وهي تعرف حقيقة وجودها الكارتوني
في كل مرة تعود قضية المصالحة الى واجهة العملية السياسية ، يتأكد بوضوح كافٍ لكل عين ثاقبة وإدراكٍ سوي ، أنها لا تعني كل ما يجري تداوله من أوراقٍ ومفرداتٍ ومصطلحاتٍ ومفاهيم مبتسرة ، لأنها تفضي كلها الى مصالحة فوقية معزولة عن الواقع
ذلك ان المصالحة الحقيقية التي هي في جوهرها مصالحة مجتمعية ، لا تتحقق ولا تجد تعبيرها إلا في مفردة تختزل كل ما في مفهوم الديمقراطية والدولة المدنية العابرة للطوائف ومحصاصصاتها ، وتتجسد في المواطنة الحرة المتساوية وكل ما يشكل حوامل لها