دخول مدينة مثل بغداد، بالنسبة لي، اختبار العاطفة قبل إعمال العقل.
بدءاً من بصرة المربد كان مناخ المدينة مؤتشباً حيث اختلاط شط العرب، الذي كان في أفضل حالاته، بنهر العشار مستنقع القمامة الوفيرة بشكل محزن!.وحده بدر شاكر السياب احتفظ بلياقته الرمزية بينما تنوء البصرة بالإهمال رغم صبر الناس الذي هو أضعف أشكال المقاومة للفساد وقمامة الدولة المتفشية عمودياً وأفقياً.باختصار شديد: العراق أغنى بلد في العالم هو أفقر بلد في العالم.غنى العراق أما معطل أو منهوب.الشوارع تغص بشبان يبيعون أي شيء للمارة أو لسائقي السيارات أو ركابهم، عدا عشرات الشحاذين من النساء والرجال (في شارع رئيس واحد، مثلاً، يخترق منطقة الكرادة داخل)، فكم شارع رئيس ، ثمة، في العراق يمتلئ بالشحاذين، إذن؟هل شعر أحد من قادة الدولة، ومن يكنزون الذهب والفضة، في مختلف العملات الكبرى، بالخجل لأن إخوتهم وأخواتهم يشحذون ليسدوا رمقهم؟
نبهني صاحبي: ثمة مافيات تنظم سوق الشحاذة مقابل نسبة من المحصول. قلت: هذا لا يمنع من الشعور بالخجل لأن من يرتضي العمل كشحاذ يدفع من محصوله لمافيات هذه السوق لم يجد أية فرصة عمل في بلد النفط والمياه والنخيل والطاقة المشتعلة في سمائها المختنقة بدخان الغاز.لكن، ثمة أمل.الأمل في عيون العراقيين المُصرّين على التمسك بجمرة التغيير، من الجنسين ومن مختلف الأعمار، المسكونين بالعراق العجيب الغريب، لا كتاريخ، حسب، بل كحاضر محتل وفاسد ومستقبل غامض يستعصي على الوضوح.مثقفون مدنيون (أي ليس الطائفيون أو المنضوون تحت أبط السلطة الحاكمة وخدمها العلنيين والسريين) مثقفون/مواطنون ينحتون الصخر لبلوغ قلب الطين الناشف الذي كتبت عليه كلماتنا الأولى واشتقاقات الماء وعدالة المسلّة وحلم الخلود والنزوع المبكر نحو الجمال منذ طفولة القراءة والكتابة.
أولئك الذين رافقتهم لساعات عند ساحة التحرير في تظاهرة الجمعة، قبل الماضية، فاختلطت عندي رجفة القلب بِحَيرة الروح وأنا أرى إلى نفسي متظاهراً، لأول مرة، في وطني بعد مرور هذا العمر الموشك على الهاوية تحت حكم سلطات فاشية عائلية أو قبلية وطائفية تافهة (بشقيها).نبهني صاحبي ثانية: تظاهرة الساحة إلى انحسار واضح، للأسف.ذكرته بجملة قلتها ضمن كلمتي القصيرة المرتجلة التي وجهتها لأخوتي العراقيين خلال التظاهرة: أقليّة شجاعة هي أكثرية.. ثم أوضحت: انحسار المتظاهرين لا يعني انحسار الغضب لأن جميع من التقيتهم في بغداد غاضبون، من سائق التاكسي الذي أدركت صدقه من خلال سواد تحت أظافره حتى المسؤول الكبير الذي أدركت كذبه من خلال إطراقة عينيه أثناء كلامه.
باختصار: كل المتظاهرين غاضبون لكن ليس كل الغاضبين يتظاهرون.تركز الغضب الذي لمسته صارخاً أو هامساً على الطبقة السياسية الحالية بإجماع لا يقبل أي استثناء!
قالت عجوز من أقاربي: البلاء كله من الأحزاب السياسية في السلطات العلنية أو الخفية.. خالة "كلهم نفس الشي"، أوضحت هي.
رغم هذا كله ثمة أمل، وإن بدا غائماً، شحيحاً، منكسراً.
أمل بوصفه ألماً، عندما تستحيل المأساة إلى حافز على التفكير.. على التحديق بالذات، أولاً، كما أقترحُ.. مهما اغتبشت المرآة. مهما بلغ بنا اليأس من تغيير القبح أو التقليل من وزر المأساة الماثلة، لنواجه السؤال الذاتي: ما نحن فاعلون؟
من ناحيتي أتألّف من كفّتين متساويتين تتأرجحان بين اليأس والأمل، لكن كفة الأمل هي الراجحة وإن بمقدار موجة صغيرة على صفحة دجلة الخير حيث انتظرت الجواهري، وحدي، ولكنه تأخر علي كثيراً، فعدت أدراجي لأقيس درجة الأمل بمقياس دمعة.
بغداديات.. الأمل بوصفه ألماً
[post-views]
نشر في: 25 يناير, 2016: 09:01 م