2-2
بدا واضحاً أن المخرج اختار في تأسيس الرؤية الإخراجية الركون إلى بعض المقترحات النصية التي انقسم فيها فضاء العرض إلى قسمين ، ارتبط احدهما بفضاء (السلطة / الجلاد/ الحجاج) ، والآخر يكشف عن فضاء (المرأة / الضحية / عائشة) ، وهي ثنائية كان ينتظر من ال
2-2
بدا واضحاً أن المخرج اختار في تأسيس الرؤية الإخراجية الركون إلى بعض المقترحات النصية التي انقسم فيها فضاء العرض إلى قسمين ، ارتبط احدهما بفضاء (السلطة / الجلاد/ الحجاج) ، والآخر يكشف عن فضاء (المرأة / الضحية / عائشة) ، وهي ثنائية كان ينتظر من المخرج التعاطي معها والعمل على تفعيلها من اجل بناء مرتكزاته الإخراجية التي تتوافق مع المقترحات التي سطرها في (سيناريو العرض)، وبدا المخرج قادراً على ذلك عن طريق التكوين الأساسي في فضاء السلطة والمتمثل بالمنبر الذي اختار المخرج أن يعتمده للتعبير عن دلالة مزدوجة المعنى تحيل إلى الزواج الأبدي بين السلطة الدينية والسلطة القمعية.
الأمر الذي جعله مقترحاً إخراجياً معبراً على نحو واضح عن الهيمنة التي تسيطر على المجتمع عبر العصور. إلا أن تلك الالتماعة الاخراجية لم توظف على نحو فاعل ، بل ان المخرج عمل على استهلاكها عبر تكرارات لم تكن منتجة ، فضلا عن أن المخرج لم يعمد إلى تغيير الألوان البيضاء التي ارتبطت بـ (المنبر / السلطة) ، الأمر الذي جعله مكاناً محايداً ، لتتلاشى معه تلك الفرضية التي تم الكشف عنها. من جهة اخرى فإن المخرج وقع في مغالطة اخراجية أسهمت في إنتاج الفوضى البصرية التي تمثلت في توحيد فضاء (الحجاج) وفضاء (عائشة) عن طريق إغراق المسرح بـ (القطن الأبيض) ، الأمر الذي انتفى معه البناء الدرامي لشخصية (الحجاج) وما يحتكم عليه من سطوة وقوة تستتر تحت مقولات لفظية ظل يبوح بها شاهراً سيفه : ( لألحونهم لحو العصى حتى يستقيموا) ، بل على العكس من ذلك ظل الفضاء بارداً خاوياً من المعنى الذي يمكن أن ينتج عبر دلالات لونية لم يعمد المخرج إلى تفعيلها ، بل على العكس من ذلك راح يعمد إلى تأكيدها عن طريق اعتماد الألوان البيضاء في أزياء شخصية (عائشة) في المشاهد الأولى متناسياً ملفوظها النصي الذي جاء تعبيراً عن حزنها على مقتل زوجها الذي أطاح به سيف (الحجاج) . ويأتي توظيف التقنيات الحديثة (الداتاشو)، ولاسيما صور الحروف العربية التي أسهمت في إنتاج وحدة دلالية منسجمة مع الملفوظ النصي الشعري في إشارة واحدة إلى التراث العربي الإسلامي واللغة المتعالية التي اتسمت بها لغة الشعر العربي ، إلا أن اعتماد المخرج على (الداتاشو) في مواضع اخرى وبمضامين صورية مختلفة كشف عن فوضى اخراجية أراد المخرج عن طريقها التعبير عن حضور (الحلاج) في كل زمان ومكان ، كما في مشاهد (الأهوار، والشناشيل) التي لم يكن العرض يحتاج إلى تشخيصها للتعبير عن حضور السلطة القمعية في مختلف الأزمنة . ولم تقتصر الفوضى الإخراجية على مشاهد (الداتاشو)، بل في مشاهد إخراجية متنوعة ظل المتلقي عاجزاً عن توصيفها في العرض ، نذكر منها توظيف المخرج لرقصة ( الدبكة) التي يتم تداولها في المناطق الغربية من العراق ، فضلا عن توظيفه للأغاني الشعبية، لاسيما اغنية (هيج انتي حلوة )، ومشهد الأغاني الريفية التي تم استهلاكها في المسرح التجاري. وقد بدا واضحاً من تلك المداخلات المشهدية أن المخرج أراد التعبير عن فكرة السلطة القمعية وثقافتها المهيمنة على المجتمع ، إلا أنه لم يتمكن من إنقاذ الرؤية الإخراجية من الفوضى التي اجتاحت فضاء العرض المسرحي .
ثنائية الأداء المسرحي والأداء اللفظي:
تعلمنا أبجديات الأداء المسرحي ان الممثل المسرحي يحتكم على منظومتين إحداهما سمعية يتم فيها التعبير عن الملفوظ النصي ، والاخرى حركية وفيها يتم التعبير عن السلوك الحركي للممثل، وبدا واضحاً ان الممثلين في مسرحية (مكاشفات) أفادوا على نحو خاص من الاداء الصوتي، فضلا عن قدراتهم العالية في التفاعل مع الملفوظات الشعبية التي اقتحمت النص الشعري والتي اسهمت على نحو اساس بالإطاحة بالمنظومة الادائية ، إذ بدا واضحا أن الممثل الفنان (ميمون الخالدي) كان يتفاعل مع لغة النص الشعرية على نحو كبير لدرجة ان لغة النص جرجرته من الاداء المسرحي إلى الاداء الإذاعي في مواضع مختلفة ، فضلا عن انه لم يكن قادراً على التعاطي مع الإكسسوارات التي تمثل جانباً رئيساً من شخصية (الحجاج) التي جسدها ، ولا سيما السيف والعمامة وهي مفردات بدا واضحاً ان اهتمامه بهما يحتكم على معنى دلالي فالسيف علامة دالة على قطع الرؤوس التي أينعت ، اما العمامة فهي تعبير عن السلطة الدينية التي يتخفى خلفها وهو يعتلي المنبر، وهي ثنائية علامية دالة إلا ان الممثل لم يعمد إلى تفعيلها، بل على العكس بدت عبئاً ثقيلاً على الممثل يسعى للخلاص منها. من جهة أخرى فإن المقترحات اللفظية التي جاءت للتعبير عن ملحمية الاداء المسرحي والتي افترض المخرج أن (نسيان الحوار ، وإسقاط الإكسسوار وبعثرته في فضاء العرض والبحث عنه في محاولة لبناء علاقة مع الجمهور، وإضاءة القاعة تعبيراً عن التفاعل مع المتلقي ، وتحول شخصية عائشة عن طريق تدخين السجائر واستعمال الحجاج لأسلحة حديثة .. وغيرها ) بدت تقنيات فقيرة وبالية غادرها المسرح العالمي وعفا عليها الزمن، واستهلكها المسرح العراقي ثمانينات القرن الماضي، كما ان الركون إلى الملفوظ الشعبي دفع بالممثل إلى التفاعل مع الجمهور والسعي إلى إثارة مشاعره بكلمات تمتلك خصوصيتها عند المتلقي العراقي كما في كلمات (يا عمي) وغيرها .
ولم يكن أداء الفنانة (شذى سالم) التي جسدت شخصية (عائشة بنت طلحة) بمعزل عن التمسك بالملفوظ النصي على الرغم من محاولاتها في إثارة المتلقي عن طريق الصرخات تعبيراً عن فاجعتها ، إلا ان التحولات التي بدت مقحمة على سلوكها أسهمت في الاطاحة بالشخصية ، ولاسيما مشهد (التدخين) الذي بدا دخيلاً على الشخصية على نحو كبير ، فضلا عن المشهد الذي تزاوج فيه بين فعل (اللطم) والرقصة الغجرية الشهيرة (هزة الشعر) ، ولم تكشف الممثلة في أدائها في مواضع مختلفة عن تلك المرأة المفجوعة بمقتل زوجها ، بل على العكس فإن الاداء التمثيلي كشف عن سلوك مضمر جاء تعبيراً عن رغبة جامحة للشخصية في التقرب من احضان السلطة من دون ان يتعرف المتلقي على النزعة الحقيقية للشخصية التي ظلت غامضة حتى المشهد الأخير الذي لم يكن منسجماً هو الآخر ضمن سلسلة من التحولات في الزي المسرحي والإبقاء على طريقة الاداء النمطي للشخصيات ، فضلا عن ان المخرج أسهم في إنتاج فجوات ادائية أسهمت في القضاء على شذرات الإيقاع المسرحي التي تناثرت في فضاء العرض ، نذكر منها المشاهد التي تم تسجيلها بأصوات الممثلين والتي كشفت عن ضعف في معالجة الزمن الدرامي . كما أن اعتماد المخرج على ترك الفضاء المسرحي خالياً من الممثلين، بينما المتلقي يستمع إلى حواراتهم وهم خارج الخشبة في رحلة تغيير الأزياء التي أسهمت في تعزيز قناعة المتلقي في موت الإيقاع المسرحي، كما أن مقترحات الرؤية الاخراجية التي تأسس عليها العرض (القطن الأبيض) قد أسهمت على نحو واضح في إعاقة حركة الممثلين حتى بدا أنهم يعتمدون سلوكاً تعبيرياً في الانتقال من موضع إلى آخر في حين أنهم كانوا يصارعون القطن من اجل الحصول على نسق حركي ينسجم مع الشخصيات التي جسّدوها، كما أن إقحام شخصية (خادم العرض) التي جسّدها الممثل الفنان (فاضل عباس) على النص بدا واضحاً ، إذ ان توافر العرض على هذه الشخصية وتحديداً تحت مسمى (خادم العرض) يعطي تعبيراً واضحاً ودالاً إلى أن ممثلي العرض كانت بهم حاجة إلى ممثل مساعد يكون متحركاً داخل الفضاء ، وهو ما قام به الممثل (فاضل عباس) على نحو واضح . اما على مستوى البنية المشهدية أو الرؤية الإخراجية أو المقترح النصي فإن العرض لم تكن به حاجة إلى شخصية مقحمة على بنيته الفكرية والجمالية .
ثنائية الإضاءة والأزياء المسرحية:
يبدو أن المشتغلين في الحقل المسرحي مستمرون في التعاطي مع المصطلحات المسرحية على نحو كيفي من دون الركون إلى مرجعيات تلك المصطلحات وأسباب توظيفها في العرض المسرحي ، ذلك أن التأكيد على اختزال مصطلح السينوغرافيا بالإضاءة ومصممها يعد اختزالاً لمنظومة متكاملة ، فإذا كان العرض المسرحي (مكاشفات) يعتمد على وجود مصمم للأزياء (سيف العبيدي) ، فكرة الديكور (غانم حميد) ، منفذ الديكور (فراس جلال) ، الموسيقى وإعداد المؤثرات (كمال حسن) ، فهل ثمة ما يدعو إلى إعادة توصيف مصمم الإضاءة تحت مسمى (السينوغراف) . من جهة أخرى فإن إضاءة الفنان (علي محمود السوداني) أسهمت على نحو واضح في إنتاج توصيفات بصرية متنوعة ساعدت في تحقيق الشكل البصري الذي بدا فاعلاً في مواضع عدة من العرض، لاسيما في المشاهد التي بدا فيها أن الإضاءة أحالت فضاء العرض إلى مرجل حراري يمكن أن ينفجر بسبب سلطة الحجاج، إلا انه بدا في مواضع أخرى مغايراً للرؤية الأخراجية التي بدت دخيلة على فضاء العرض كما في مشاهد (الأهوار ، والشناشيل).
فضلا عن أن المخرج أفاد على نحو واضح من التنويعات التي توافرت في الأزياء المسرحية ، إذ ارتبط بعضها بتحديد الشكل الأيقوني للشخصيات (الحجاج، عائشة) بحسب مرجعياتها التأريخية ، إلا أن المخرج لم يسعَ إلى الكشف عن المعنى الدلالي الذي يمكن أن ينتج من الازياء ،إذ اقتصر اهتمامه على الشكل الخارجي للأزياء من دون تفعيل منظومتها العلامية التي كان يمكن لها أن تساعد في إنتاج علامات دالة تعبر عن الشخصيات ، الأمر الذي أسهم في الكشف عن أحد أمراض الزّي المسرحي ، بحسب (رولان بارت) في إشارة إلى التكلف والبهرجة اللونية التي بدت حاضرة في أزياء (المكاشفات) الغائبة.