اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > تحقيقات > "دعوا القمامة لنا".. !

"دعوا القمامة لنا".. !

نشر في: 25 يناير, 2016: 09:01 م

إنها بلاد النفط التي انهار اقتصادها، لكن هذا لا يعني ان أطفال القمامة قبل الانهيار كانوا منتعشين طفوليا، لهم أظافر نظيفة او ملابس زاهية.. إنهم منسيون، هكذا أخبرهم أهاليهم ودفعوهم للعمل، وهكذا أخبروا كاميرتنا..الأطفال والنساء هم الضحايا الطازجة دائما

إنها بلاد النفط التي انهار اقتصادها، لكن هذا لا يعني ان أطفال القمامة قبل الانهيار كانوا منتعشين طفوليا، لهم أظافر نظيفة او ملابس زاهية.. إنهم منسيون، هكذا أخبرهم أهاليهم ودفعوهم للعمل، وهكذا أخبروا كاميرتنا..
الأطفال والنساء هم الضحايا الطازجة دائما ، سواء في حي العماري بأطراف بغداد او غيره من الأحياء الفقيرة. لكن حديثنا اليوم عن هذه البقعة البغدادية الممتلئة بأمراضها ومكروباتها ومياهها الآسنة؛ حيث تتجمع النفايات بعضها فوق بعض الى جانب البشر الذي يبحثون  في أعماقها عما يكون نافعا ويُشترى منهم، يبحثون عن العلب ويجمعونها في اكياس متواضعة ويبيعونها بأسعار بخسة لأصحاب المعامل..
داخل أعشاش القمامة التقينا بـ"مظفر" الذي أبدى استعداده لأن يصير دليلنا في منطقته التي يعرفها جيدا عن ظهر قلب كما يعرف البدوي صحراءه..
-  نحن نعمل في هذه المنطقة ونعيش حولها، نخرج في الصباح الباكر ونعود عصرا،، قسمنا الارض فيما بيننا وستجدون هنا ان الجميع يعمل : الاطفال والنساء والرجال، هذا مصدر رزقنا الوحيد..

*  انت بالمدرسة؟
-  لا، تركتُ المدرسة، اغلب الاطفال هنا تركوا المدرسة من اجل العمل..

*  من اين تنصحني ان أبدأ؟
 -  ابدئي من تلك الصفحة التي تعمل فيها النسوة، قابليهن، بعضهن سيتحدثن، وبعضهن خجولات او لا يسمح لهن ازواجهن بالتحدث او الظهور في التلفزيون، حاولي ..
 الامهات محافظات على تنقيب وجوههن ربما خجلا او توقيا في منطقة تعم فيها الروائح النتنة وتسبح فيها المكروبات ..
"ام أحمد" ابتعدت عنا وحاولت التملص من الكاميرا والحديث ، كما ان احمد ابنها البكر والذي يبلغ من العمر ١٣ سنة وبّخها قائلا لها "ليست لدينا نساء تتكلم في التلفزيون"، وبعد محاولات عدة وافق أحمد وأمه على الحديث بشرط ان لا يظهر وجهها على التلفاز:

*  لدي ٧ أولاد انا مسؤولة عنهم وعن مصروفهم، لابُد ان اعمل حتى أعيل العائلة، لدي ابنتان لا تستطيعان العمل لأنهما معاقتان، بالاضافة الى ان البنت الكبرى مريضة ايضا، وهذا ولدي احمد ينزل احيانا الى العمل معي في " الزبالة" ، نجمع العلب ونبيعها . في السابق كان البيع افضل، اما الان فقد باتت المعامل لا تشتري منا مثل السابق بل بين فترة وفترة اي ما يقارب كل ١٠ ايام او اسبوعين مرة، لولا العوز لما خرجت لهذا العمل المتعب..
 -  كم تجنين عادة من جمع العلب؟
-  أجني ما يقارب الخمسة عشر الى العشرين الف دينار ، لكن هذا الأمر صار الآن كل ١٠ ايام او اكثر كما اخبرتك، وهذا لا يكفي ابدا لسد مصاريف البيت او علاج ابنتي الكبرى..

 *  ارى ان هذا العمل يزعجك..
-  أكيد يزعجني جدا لكن ما في اليد حيلة والانسان لابدُ ان يعيش..نحن منسيون ، من يفكر بنا وبمعاناتنا ؟ لا أحد التفت الينا يوما ما..
باكرا جدا هو الوقت الذي يستيقظ فيه الاطفال غير آبهين ان ارتدوا أحذية تقي أرجلهم من الحشرات والبراغيث المتسللة او قفازات تحمي أيديهم الناعمة من خشونة ما هو متكدس.. حدثتنا "سليمة" عن عملها:
- منذ متى تعملين هنا!

 *  منذ مدة...  ممممم لا اعرف بالتحديد..
- هل تعرفين كم عمرك!

*  نعم، ٩ سنوات
-  من قال لكِ ان تأتي للعمل هنا !

*  لا احد، انا جئت بصحبة الفتيات للعب هنا وجمع العلب..
-  مالذي تجمعيه هنا؟

*  اجمع علب الستاندر والسينكولا وعلب الماء..
-  وماذا تعملين بها؟

* اعطيها لوالدي..
  - اذن، والدكِ طلب منك ان تأتي للعمل هنا؟
- نعم، والدي.. انا واختي نعمل ونلعب هنا..
-  متى تخرجين من البيت للعمل..

*  اخرج باكرا جدا قبل ان اذهب الى المدرسة، الساعة السابعة صباحا واحيانا أبكر اي ما يقارب السادسة، ثم اذهب الى المدرسة  ..
* انتِ بالمدرسة!
-  نعم بالمدرسة انا واختي..
 *  الا تزعجكِ هذه الرائحة؟
-  انها رائحة مقرفة " خيسة" لكني اعتدتُ عليها ..

*  هل ذهبتِ يوما ما الى مدينة الالعاب؟
-  لا، لم اذهب.. اتمنى ان اذهب ..
"سيارات الكبس" ،كما يسميها الاطفال، او سيارات تفريغ النفايات ابتعدت عندما رأتنا نصور،  وهي السيارات التي من المفترض ان تفرغ محتوياتها في مكب نفايات ناحية النهروان ،خمسة وثلاثون كيلو مترا جنوب شرقي بغداد، مع هذا فهي تغير طريقها باتجاه حي العماري لتبيع النفايات لهذه العوائل بقيمة خمسة وعشرين الى ثلاثين الف دينار خارقة بهذا المسار الذي تحدده لها امانة العاصمة بغداد.
كما ان "جمع العلب" ليس هو الهدف الوحيد الذي يستدرج الناس للعمل في هذه الأرض التي تضج بالنفايات، بل سائقو سيارات الردم الذين يهيئون ارضية مسطحة لاستقبال المزيد منها حاصلين على أجرتهم من الصبية الذين يجمعونها فيما بينهم لاستمرارية العمل، "سليم" افضى الينا بهذا السر..
 -  ما هذه السيارات التي فرّت عندما رأتنا ؟

 * انها سيارات الكبس وهي تحمل النفايات التي تجمعها وتأتي لتبيعنا اياها.. انهم لا يدخلون الان لأنكم موجودون وتصورون، حيث انهم من المفترض ان يكبوا هذه النفايات في مكب النهروان وليس هنا..
*  ولماذا يكبونها هنا؟
-  لأننا نشتريها..

*  بكم تشترونها؟
-  من خمسة وعشرين ألفا الى ثلاثين ألف دينار..

*  من يدفع؟
-  نتقاسم المبلغ فيما بيننا ونشتري النفايات حتى نعمل بها..

 * وماهذه السيارات التي أمامنا!
-  انها سيارات البلدوزر، هذه سيارات ردم، تعمل على ردم النفايات حتى تأتي السيارات الكابسة وتضع جديدها، ثم نأتي نحن ونفرغ النفايات ونبدأ بجمع العلب وطبعا كل واحد في مساحته التي اخذها، فلا يحق لأحد ان يتجاوز على مساحة الاخر..

* هل هذا السيارة حكومية؟
 - كلا انها سيارة اهلية، يعملون بها، ونعطيهم في الساعة تقريبا خمسين الف دينار..

 * الا تعتقد انه مبلغ باهظ؟ هل تكسبون بقدر ما تدفعون لاستمرارية عملكم؟
- نعم باهظ، لكننا نتقاسم كل شيء فيما بيننا.. كنا في السابق نربح افضل مما نربح الان وهذا لأن المعامل لم تعد تشتري مثلما كانت في السابق ..
انزعج بعض العاملين منا، حاولوا طردنا وصرخوا بوجوهنا "ارحلوا"، تساءلنا عن السبب فحدثنا "علي" عن ذلك:
-  من الافضل ان لا نفصح بشيء للإعلام لأن هذا رزقنا الوحيد وانتم تحاولون ان تعرضوا ما يحصل، قد تأتي الحكومة وتردم الارض وبالتالي نخسر عملنا، لو ان الحكومة ردمت هذه الارض واختفت هذه النفايات اين سأعمل انا؟ ومالذي سأعمله؟ لا يوجد هناك اي عمل كما ان لا احد يلتفت لحالنا..
* وهل ستبقى تعمل هنا؟
 -  نعم سابقى اعمل هنا ، لا اعرف شيئا سوى العمل هنا، تركت الدراسة وعمري ١٦ سنة الان تأخرت عن العودة الى المدرسة لهذا ليست لدي نية الخروج من هنا..

* اريد ان اعرف ما هي علب الستاندر والسينكولا؟
-  الستاندر هي علب الزاهي والسينكولا هي علب الببسي وهناك علب الماء نحن نجمعها ونضعها في كيس ونأخذ ما نجمعه كل اسبوع تقريبا الى المعمل لبيعه..

* كم اسعار العلب؟
-  توزن بالكيلوغرامات.. هناك كيلو بعشرة الاف واحيانا من الممكن بيعه بخمسة عشر الف دينار ..

* بماذا تحلم؟
- لا احلم بشيء

* لو خرجت من هنا .. هل ستخبر احدا انك تعمل في النفايات؟
 -  لا .. اخجل
ظنوا اننا نحاول ان نفسد عليهم لقمة عيشهم الوحيدة ، فلربما اذا عرض هذا التقرير من خلال الإعلام ستخجل الحكومة او تغضب لأن كرامة الإنسان هنا اختفت واستبيحت.. فقد  تمنع وصول سيارات الكبس وتردم هذه الارض وتمنع العوائل من العمل في القمامة من اجل الحفاظ على صحتها وكرامتها، او ..وهذا حلم وردي جدا ، قد تقيم مشروعا استثماريا لتدوير القمامة والاستفادة منها كما يحصل في المانيا والنمسا وغيرها من الدول المتقدمة وبالتالي يدخل هؤلاء الى المعمل وهم يرتدون أحذية وبدلات عمل تتوفر فيها شروط السلامة بالإضافة الى كمامات وقائية .. سيدر عليهم هذا المشروع مبالغ مادية جيدة ويسهم بالتخفيف عن كاهل الأزمة الاقتصادية الذي يبعث املا شحيحا بإمكانية الخروج من تخبطات النظام الريعي..
على اي حال ، الناس هنا ما عادوا ينتظرون ان يلتفت اليهم احد، او يمد لهم يد العون او يغير واقعهم ومستقبلهم. لم تعد "ام احمد"  تنتظر ان يهبها احد فرصة أفضل للعيش وراحت تتعايش مع الوضع الجديد وتتجرعه رغم مرارته، وتريد الاحتفاظ بما تبقى لها، وللأسف لم يتبقَّ لها شيء سوى القمامة ..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. عراقي

    الاعزاء في المدى انتم جريدة مهنية كيف فات عليكم هذا التحقيق هل معقول ان يتحدث شخص لصحيفة ويقول ارجوا ان لا يظهر وجهي في التلفزيون ، وفي مكان اخر يقول كاتب التحقيق ، او كاتبته ان كاميرتتا التلفزيون هل هذا معقول الم يمر هذا التحقيق على محرر.. للاسف ا

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية
تحقيقات

لا ينبغي ان يحلق في سمائها غير طيور الحباري ..الإرهاب والمخدرات يهددان أمن الحدود العراقية السعودية

 اياد عطية الخالدي تمتد الحدود السعودية العراقية على مسافة 814 كم، غالبيتها مناطق صحراوية منبسطة، لكنها في الواقع مثلت، ولم تزل، مصدر قلق كبيراً للبلدين، فلطالما انعكس واقعها بشكل مباشر على الأمن والاستقرار...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram