من بين النمو المتسارع لأشجار الخواء الفكري وتناسل المعاول التي تهدم ما تبقى من كيان الدولة العراقية، برزت "المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية في العراق"، من خلال عقدها لمؤتمر "إدارة الثقافة في زمن الطوارئ" ببغداد مؤخراً، بجهود فردية خالصة من قبل مثقف
من بين النمو المتسارع لأشجار الخواء الفكري وتناسل المعاول التي تهدم ما تبقى من كيان الدولة العراقية، برزت "المجموعة الوطنية للسياسات الثقافية في العراق"، من خلال عقدها لمؤتمر "إدارة الثقافة في زمن الطوارئ" ببغداد مؤخراً، بجهود فردية خالصة من قبل مثقفين عراقيين يراهنون على إنضاج الأمل برغم فداحة الموقف. هذا المؤتمر الذي عقد بدعم من مؤسّسة المورد الثقافي، يحاول أن يعطي فكرة مغايرة تماماً عن التصور العام للعلاقة بين السياسي والثقافي وموقف المثقف من السياسي، هذا الموقف المتشنّج في الغالب والذي يرى إنّ السياسي هو العدو الأول له ويجب مقاطعته وعدم الاتصال به تحت أية ذريعة ومسمى، إضافة إلى الخوف من تهمة المحاباة والتبعية للسياسي وعدّه من عيون السلطة داخل الوسط الثقافي. من خلال هذا المؤتمر، اختلفت الرؤية تماماً، إذ حاول المؤتمرون أن يقولوا: إنّ المثقف يتحمل جزءاً من المسؤولية إزاء ما يحصل من إخفاقات على الصعيد الثقافي، وبالأخص في مسألة غياب القوانين التي تمس الحياة الثقافية والمثقف بفعل حقيقة عدم وجود مقترحات للقوانين ولا لجان لتفعيل المتعلق منها بالشأن الثقافي. هذا أحد الأسباب التي جعلت السياسي لا يلتفت إلى هذا الجانب، فهو لم يجد جماعة ضغط تحرّض بهذا الاتجاه بشكل منظّم، إضافة إلى القطيعة التي تجعله غير مرحّب به لدى المثقف والمؤسّسة الثقافية، فهو بالتالي سيقابلهم بالمثل. في هذا المؤتمر، تم كسر هذا التصوّر عبر توجيه الدعوة إلى رئيس مجلس النواب وأعضاء فيه؛ لغرض النقاش معهم بشأن مشكلات التشريعات الثقافية والسبل الكفيلة بمعالجتها، وهو ما حصل فعلاً، إذ استمع برلمانيون إلى مطالب المثقفين المختصين بالشأن القانوني، وإلى آرائهم في تعديل القوانين وتشريع قوانين جديدة تلبي الحاجة المتزايدة للمثقف والمؤسسة الثقافية. فكانت النتيجة هي الخروج بجملة من التوصيات التي أسهم المدعوون من البرلمان بصياغتها، والتي رفعت إلى رئاسة البرلمان لمطالعتها وطرحها للنقاش، من أجل بلورة صياغة مشاريع قوانين للثقافة والمثقفين. إضافة إلى إلقاء الحجة على البرلمان الذي يزعم بأنه لم يقدم له شيء من قبل المعنيين بالثقافة حتى يتم اتهامه بإهماله للتشريعات الثقافية. المؤتمر الذي قسم إلى ورشات متعددة، كل ورشة تعالج قضية ثقافية معينة، حاول أن يخرج بمجموعة من التوصيات والمقررات التي رفعت كما قلنا الى الجهات المختصة. ورشة التشريعات الثقافية خرجت بمشروع أو فكرة ربما تكون مطروحة سابقاً، لكنها تختلف عن سابقاتها من خلال رجوعها إلى نصوص الدستور والقوانين. هذا المشروع يتمثل بـ: "تشكيل هيئة عليا للثقافة"، مستقلة، تتبع أو تكون مؤسّسة من مؤسسات الدولة؛ لكي تصبح مرجعية عليا للثقافة وراعية للمثقفين وإبعادها عن هيمنة السلطة التنفيذية المتمثلة بالحكومة. ربما يتشابه هذا المشروع مع ما طرح سابقاً من مشروع تشكيل مجلس أعلى للثقافة. لكن ما يجعله مختلفاً عن السابق هو الغاية من تشكيله وهي تحرير الثقافة من هيمنة الأشخاص والمؤسسة الحكومية، في حين ان الطرح السابق جاء بالأشخاص أنفسهم الذين يمثلون احدى إشكاليات العمل الثقافي. ربما تكون هذه الهيئة بديلاً ناجعاً عن بقية المؤسسات الاخرى، أو في الأقل مكملاً لعملها ومغطياً لهفواتها وإخفاقاتها. كما ناقشت الورشة مسألة قانون اتحاد الأدباء وقانون وزارة الثقافة وقانون حماية حقوق المؤلف وتساءلت عن قوانين قيد التشريع. هذه القوانين التي سنّت في زمن الدكتاتورية وما تزال نصوصها تؤكد على أهمية ثقافة البعث والولاء لثورة تموز. ولم تحرك هذه المؤسسات ساكناً إزاء هذا الخرق الثقافي والقانوني في قوانينها. لم تطلب تعديل قوانينها أقلّها بحذف الألفاظ التي تمجد النظام السابق. ولم تراجعها طوال العقود الماضية لترى: هل ما تزال تناسب الوضع الجديد؟ هل قانون الدكتاتورية يصلح لمرحلة التعددية السياسية؟ هذه الأسئلة ويا للأسف، لم يطرحها مثقف إلا نادراً؛ لكنها طرحت وبقوة في هذا المؤتمر الذي عارضه بعض المتشائمين مطلقين أحكامهم المبكرة عن عدم جدواه في تحقيق أهدافه، وإن الوضع لا يمكن إصلاحه، وإن الثقافة في طريقها الى الهاوية كما هو حال البلد. فلا جدوى من انعقاد مؤتمر ثقافي يدعى له سياسيون. لكن برأيي إن المؤتمر حقق أهدافه منذ اللحظات الأول لانتهائه، إذ طرح قضايا ثقافية لم تبحث سابقاً وناقش أموراً لم يناقشها أحد لا في اتحاد الأدباء ولا في وزارة الثقافة. فالمثقف العراقي بهذا المؤتمر ألقى الحجة على السياسي، وقال له: لقد قمت بواجبي. الآن: عليك أن تقوم بواجبك. فإذا لم يقم بواجبه فليس هذا خطأ المثقف وهو قد أدى ما عليه.