كان هذا قبلَ سنواتٍ، وربما حصلَ قبلَ عقودٍ من الآن أو قبلَ قرون؛ حينما كنتُ في واحدٍ من تاسوعاءاتِ نيسان، وقد شاهدتُ بعينيَّ رجالاً قساةً غلاظَ القلوب، وكانت تخرج من أفواههم ضباعٌ. ****جاء بعضُهم سيراً على أقدامٍ حافية سافرين حاسرين أو ملثّمين بكوفيّ
كان هذا قبلَ سنواتٍ،
وربما حصلَ قبلَ عقودٍ من الآن أو قبلَ قرون؛
حينما كنتُ في واحدٍ من تاسوعاءاتِ نيسان، وقد شاهدتُ بعينيَّ رجالاً قساةً غلاظَ القلوب، وكانت تخرج من أفواههم ضباعٌ.
****
جاء بعضُهم سيراً على أقدامٍ حافية سافرين حاسرين أو ملثّمين بكوفيّاتٍ وبجواربَ نسويةٍ ممزقةٍ وبيشاميغ اسودَّ عليها اللؤم،
وعلى حُمُرٍ هزيلة ونوقٍ عجافٍ وبغالٍ جبلية وخيولٍ هرمةٍ
جاء كثيرون يسحلون وراءهم أطرافَ دشاديشهم وسراويلهم
لتتبع آثارَهم خيوطُ سوائل ظلت تتصبب من لعابِهم ومخاطِهم على طولِ الطريق إلى حيثُ يمضون.
جاءَ بعضٌ بطائراتٍ نفاثةٍ،
ومن مروحياتٍ مصفحةٍ هبط بعضٌ ببرشوتات سودٍ وببنادقَ آليةٍ قصيرة،
جاءَ آخرون بقواربَ شراعيةٍ، رست بهم عندَ ضفةِ النهر،
حليقةٌ رؤوسُهم التي لم تكن تلتفتُ ولا تستدير،
ومغلّفةٌ أكفُّهم بقفازاتِ حريرٍ صناعيٍّ أبيض،
وعلى عيونهم نظاراتٌ بزجاج أسود عاكس،
ولا غبارَ على سوادِ بدلاتِهم السموكن،
فيما نزل بعضُ رجالٍ بصحونٍ طائرةٍ،
وهبط آخرون بمركباتٍ فضائية غير مرئيةٍ، بعضٌ عراةٌ وبعضٌ بدشايش قصيرة تشفّ عن عورات ضامرةٍ، وكانوا جميعاً منشغلين بإعادة لفِّ عمائمِهم على جدائلِ شعورِهم الطويلة،
كانت عمائمُ زرقاً وسوداً وبيضاً وحمراً وصفراً وخُضراً، وكانت عمائمُ لا لونَ لها.
****
كانوا جميعاً يلهثون مثل كلابٍ ظامئة،
ومن دون أن يرتووا أو يستريحوا نظرَ الجميعُ إلى الجميعِ،
واتفقوا صامتين.
ومعاً
بيدٍ واحدةٍ
وفي لحظةٍ واحدةٍ
بدأوا المهمة..
بدأوا
بتحطيمِ أقفالِ المصرفِ الكبير،
وانهمكوا ينهبون..
ومنذ ذلك التاسوعاء النيساني
ظلّ الرصاصُ يتطايرُ من المصرف
وظل صوتُ انفجاراتٍ يُسمَعُ فيه آناءَ الليلِ وأطرافَ النهار
وكانت الحرائقُ تشتعلُ وتخمدُ وتشتعل
وليس في الأعالي إلا دخانٌ أحمر
وما على الأرض إلا رائحةُ شواءٍ لا تنتهي.
فيما المصرف بقي كل هذه السنوات هو المصرف،
لا يريد أن يحترقَ ولا أن يخمدَ ولا يهدّ
وبقي اللصوص هم اللصوص القساة يواصلون السرقة تحت جنح الليلِ وفي رابعةِ النهار وقد يستريحون آناً على أكداسٍ مما سرقوا.
****
إما الآن،
وقد كلّ المصرف، وشاخَ، وهَرِمَ، وأُفرِغ، وليس ثمة ما يغري بالسرقةِ منه بعد،
فإن اللصوصَ القساة غلاظَ القلوب،
وقد جلس كلٌّ منهم على أكياسٍ وأكداسٍ مما سرق، فإنهم يقظون متأهبون،
كأنّ على رؤوسِهم الطيرَ،
بعيونٍ جاحظة حُمرٍ ينظرون إلى بعضهم البعض،
وبأفواهٍ خرساءَ يتفاهمون،
أصابعُ كلٍّ منهم على صاعقٍ أو على زنادٍ أو تقبض على قنينةِ مالاتوف.
****
متأهبون،
ولا أحد الآن يعرف في أية لحظة سينقضُّ الواحدُ منهم على الآخر،
حيث تضيع حينها الدماءُ بينَ أكياسٍ
هرّأتها العثةُ
وذرقت عليها الفئرانُ،
وبالت على أكداسِ المليارات فيها قططٌ سمان.
جميع التعليقات 1
مزهر جبر الساعدي
نص جميل ، جميل جداً تحياتي