هناك، في الأقل، ثلاثة أنطون تشيخوفات : الطبيب، والكاتب المسرحي، و كاتب القصة القصيرة. وفي كل حقل، نبعت إنجازات عظيمة من بدايات عادية جداً، كما تقول كريس باور في عرضها هذا. فقد كان تشيخوف طالب طب متوسط المستوى، مع هذا حقق انتصارات كثيرة كطبيب، بما في
هناك، في الأقل، ثلاثة أنطون تشيخوفات : الطبيب، والكاتب المسرحي، و كاتب القصة القصيرة. وفي كل حقل، نبعت إنجازات عظيمة من بدايات عادية جداً، كما تقول كريس باور في عرضها هذا. فقد كان تشيخوف طالب طب متوسط المستوى، مع هذا حقق انتصارات كثيرة كطبيب، بما في ذلك تجهيز عيادة القرية حين ضرب وباء الكوليرا المنطقة من حول عزبته، ورحلته عام 1890 للتحقيق في أمر جزيرة معتقل سخالين : وهي مهمة خيرية طموحة لجعل وقائع سيبيريا جليةً للشعب الروسي. أما ككاتب مسرحي، فقد واجه في الأول التردد، وأخفق في أن يعثر على من يرغب في إنتاج الميلودراما المنتفخة ( بلاتونوف ). وقد برهنت ( إيفانوف ) على موهبته الدرامية لكن ( عفريت الغاب )، التي قُدمت على المسرح بعد سنتين، تعرضت لهجوم عنيف و انقضى نصف عقد من الزمن قبل أن يكتب مسرحية أخرى. وعلى كل حال، فإن مسرحياته الأربع الأخيرة تثابر على كونها واسطات العالم المسرحي.
كما لم يبدُ من تشيخوف الشاب ما يشير إلى أنه سيكتب في غضون سنواتٍ العمل القصصي الذي حدد القصة القصيرة الحديثة. وانطوت قصصه العظيمة التالية على موضوعات الخيبة، و الموت، والعاطفة والشعور بالوحدة. ومع أن تشيخوف كان، قبل أن يصبح أستاذ الاستعارة والسايكولوجيا، نوعاً مختلفاً من الكتّاب. وحين تلقى رسالة ثناء عام 1886 من ديمتري غريغوروفتش، رجل الدولة الأديب، رد تشيخوف قائلاً، " في غضون السنوات الخمس التي قضيتها متردداً على الصحف هنا وهناك فإني لا أتذكر قصة واحدة استغرقت كتابتها مني أكثر من 24 ساعة. وكان يبالغ لكن ليس كثيراً. ففي ربيع عام 1888، كان قد كدّس 528 قصة لا يمكن تصديقها.
وقد بدأ هذا الخصب في أواخر سبعينات القرن التاسع عشر، حين شرع تشيخوف في عرض نتاجه من خلال اتصالات أقامها أخوه الأكبر، ألكسندر. وكان الإفلاس قد أرغم والدي تشيخوف و أخوته على الفرار إلى موسكو من بيتهم في تاغانروغ، على بحر آزوف، تاركين أنطون لوحده لإكمال تعلمه و تسوية أمور أسرته. وقد التحق بهم في موسكو عام 1879 وكانت لديه قطعتان قبلتهما صحيفة Dragonfly الأسبوعية في بترسبيرغ في عام 1880. وكان عمره 20 عاماً. وفي السنتين التاليتين، في غمرة عمله الدراسي، نشر 60 قطعة في مجلات موسكو وبترسبيرغ تحت أسماء متنوعة. وكان ما اختاره من هذه القصص، المعد في عام 1882 لكتاب لم يظهر أبداً بسبب الرقابة المتشددة بعد اغتيال القيصر ألكسندر الثاني، هو الذي يتضمنه كتاب ( المُزحة The Prank ) الصادر مترجماً إلى الانكليزية حديثاً.
وتؤكد مترجمة الكتاب، ماريا بلوشتين، بحيوية في مقدمتها : " إن المشكلات، والموضوعات، والشخصيات، و التصرفات نفسها تُشغل تشيخوف في نهاية عمله الأدبي كما هي الحال في بداياتها المبكرة ". لكنها غير قادرة على تقديم الكثير من الأمثلة الداعمة، إذ أن هذه القصص في الحقيقة توفر القليل من المباهج التي نجدها في النتاج الناضج لدى تشيخوف. وعلى كل حال، فإنها قصص ترفيهية وفي الغالب هزلية جداً. ويبرز هنا أثران أدبيان، واحد يهزأ بالأديب وكاتب الخيال العلمي الفرنسي جول فيرن، و نورده أدناه وصفاً باهتاً ومطولاً للغاية وكان المترجم قد قرر حذفه لطوله :
[ سماء سوداء كحبر الطبّاع. وكانت الدنيا معتمة في الخارج كما في داخل قبعة مسحوبة للأسفل. ليلة معتمة ــ كنهارٍ أُغلقت عليه صدفة جوزة. وانطلقنا، والعباءات ملفوفة علينا بشدة، بينما الريح تعصف، وتجمّدنا حتى العظام. وكان المطر و الثلج ــ هذان الأخوان المتلبدان ــ يضربان وجوهنا بقوة فظيعة. ]
أما في قصة "عيد القديس بطرس"، وهي عبارة عن تقرير عن رحلة صيد كارثية على نحوٍ مسلٍّ هي أكثر من كونها مجرد جولة تسكعية، فإننا نجد أول لمحة لنا إلى براعة تشيخوف ( الموروثة عن تورجنيف ) في استحضار منظر طبيعي :
[ صارت النجوم شاحبة وضبابية. وراحت الأصوات ترن هنا وهناك. وكان الدخان الأزرق ــ الرمادي اللاذع يتموج من مداخن القرية ... فتسلق القندلفت النعسان إلى برج الناقوس الرمادي وراح يدق الجرس للقداديس. فصدر شخير عن الخفير المتمدد تحت شجرة. واستيقظت العصافير وبدأت بالفوضى، طائرةً من أحد جوانب الحديقة إلى الجانب آخر، ومنطلقةً بزقزقتها المضجرة التي لا تطاق. وبدأ طائر الصُفّارية، في شجيرات البرقوق الشائك، بالغناء. وأخذت الزرازير و الهداهد، فوق مطبخ الخدم، تثير ضجةً.
هنا، يعرض تشيخوف المؤلف أحداث اليوم الكوميدية والتراجيديدية ( شيخ مهجور في الريف، ليموت ربما، وإيذان للخادم بإغلاق أبواب ونوافذ الدار في نهاية " بستان الكرز " ) لتسليتنا لكن هناك مسافة يحافَظ عليها بينه والقصة. وكان أحد التقدمات الرئيسة التي حققها تشيخوف لاحقاً ككاتب هو القيام بإزالة هذه المسافة كلياً.
ولا يلاحظ له آنذاك حضور تأليفي تماماً. فهو " يغيِّب نفسه "، كما في وصف ف. س. بريتشيت له. ولم يعد يقدم شخصياته وإنما يؤويها. ويمكن القول إن عمل تشيخوف الشاب يتعامل مع أمور على السطح. وحين بدأت قدرته تنمو، راح يحشد معنىً أكثر فأكثر في أعماق ما تحت السطح، مبدعاً قصصاً، لم تستنفد أبداً كل ما عليها أن تقوله لقرّائها، وفقاً لأحد تعريفات إيتالو كالفينو للعمل الكلاسيكي.
• ولد تشيخوف يوم 29 كانون الثاني 1860 وتوفي يوم 15 تموز 1904 عن 44 عاماً.
عن: NewStatesman