اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ذاتَ شتاءٍ.. عندَ دارةِ الحطبِ ببيتنا

ذاتَ شتاءٍ.. عندَ دارةِ الحطبِ ببيتنا

نشر في: 2 فبراير, 2016: 09:01 م

كنتُ عنّدك، أمامنا صحنُ الكعكِ، نغمسُه ونشربُ الشايَ بالنعناع، حين قال لك أبوك: استعجل، فالشتاء بدت نذُرُه، هو على الأبواب، وقبل أن يشيرَ الى غُييمات بعثرتها السماء، أشار الى خلو دارة الحطب من السعف والجذوع اليابسة، كان يُدرك قبلنا، حيرة أمّك وهي تسعى، تسحُّ أذيال ثوبها الأسود الطويل، بين الموقد والدارة المطلمة، تبحث في زواياها النائيات عن طرف سعفة، عن عذق يابس بشماريخ كثيرة، عن كُرْبةٍ صغيرة، كشبارةٍ حتى، توقظ بها ما خمد وهمد من النار في الموقد، وهي تبّكر كعادتها، عُقيب صلاة كل فجر، جاهدة تعدُّ لأبيك ولك ولأخوتك فطور الصباح.تقول، وما كان بعلم أبيك، بأنّكَ حزمت ورزمت الكثير من كارات السعف، وأنك كنت عند حُسن ظن المنجل والطُّبر والهيب بك، فأخذتها الى ما تريد، ولم تترك الجذوع اليابسة نهباً للمطر والبلل، بل كنت على نبشها وجمعها حطباً أقدر من غيرك، وكمن يفاخر بعظمة جهده وقوته رحت تقول لي: كنت، تركتُ التل من الشلّاخ هنا ومثله هناك، ومثلما تنبش آلة الحفر في جوب الأرض نبشت في اعجاز النخل، لم يبقَ برصٌ يابسٌ بمنأى عن فأسِك وطبرك وهيبِك، فراكمت وكدست ثم أنك شددت بالبنود وحبال الليف الطويلة المداوير من يابس العذوق والكشبار والقصاميل والديخ والقصّاري ما يكفيكم برد وثلج الشتاء والشتاءين ورحت تشير الى امكنة كثيرة في بستانكم الكبير. لم تعلم أباك بذلك، قلت سأجعله يصفنُ ويبحلقُ ولا يعيبُ على الأيام التي طلعت الشمس فيها عليَّ وانا نائم، دفيان في الفراش، تحت شجرة البنمبر الكبيرة، بأوراقها التي تشبه أقداح الشاي، وقد فرشت الأرض من حولك .لم يبقَ من برد الشتاء إلا الاسبوعين او الثلاثة، ها قد لاحت تباشير الطلع في فحول النخل التي لم تحتمل طول البرد فزهقت قبل غيرها، وصرنا نعثر في المشاريب التي زرعناها العام الماضي على الفطر، حزمة هنا، تحت النخلة هذه، وحزمة أخرى عند منبتر النهر ذاك، صرنا نملأ الزبيل والثاني منه، وجاءت أمي تبحث عن الخبيز الذي أعشب وأورق وأستطال حوالي الفسائل، وبين ثغور الأرض الرطبة، كنتُ احبُّ الشاترله أكثر، هي تشبه الشبنت( الشبت) وريقات نحيفة، ساكنة لا تقوى على مضايقة غيرها من النباتات، التي تنمو قربها، وهي غالباً ما تنأى، وتتخذ من ركن، خلف أجمة ما مأمناً وتنمو ثم سريعا ما تكبر، لكنها تجف قبل غيرها، إذا لم نسارع لحشّها، كذلك أحبُّ الشواصر والعضيد والحرفش والشيخ أسم الله، فهي نباتات بخضرة صارخة، وهي من الصلف بما لا يجعل بقية الأعشاب تحت ظلالها، تعلو وتتباسق وتترامى وتفترش ما تطاله أوراقها من الأرض، هي من أفضل ما كنا نعثر عليه من علف للأبقار، هل قلتُ إنَّ دارةَ الحطبِ خلت؟طارَ سربٌ من فواخت وحط سرب آخر من حمامٍ مسكيٍّ في حقل البرسيم الذي خلف البيت، ورأيت أكثر من خمسةِ لقالقَ، كانت تقف على ساق واحدة، في شريط برتقالي عند الحفر الصغيرة، أسفل النهر، هي تبحث عن ضالتها في حفر الطين التي كنا نخلفها هناك، قلتُ: ياه. أنّى لهذهِ المخلوقات الدنو والشعور بالأمان، أنّى لها الاحساس المبكر بالربيع، وفي غفلة من عين متفرسة رأيتها تخفقُ بأجنحتها بعيداً، وفجأة تشكلت في السماء بهيئات لم أعد أتبينها، لكنني لمحتُ أنَّ بعضها راح يكتب ما يعني كلمة وداع. لعلها كانت تريد أن تقول لي: إلى اللقاء، نحن ذاهبات الى حيث تركنا أعشاشنا، إلى حيث لا تنغلق علينا الفضاءات هناك.إلى عنبار الأبلام والمهيلات، مع صناديق التمر والبواري القصب، مع الحبال القنب والكنبار كان أبي يصعدُ ببعض الحطب، هديةً الى البلّامة، في إشعار منه بنهاية الموسم، وكما لو أنه يقول لهم: سنعودُ، نستأجركم في السنة القادمة. كان يمنحهم من دارة حطب بيتنا الكارة والكارتين من السعف، المِدْوَارَ والمِدْوَارَين من الشلّاخ والقصّاري(الكَصاري) ومثل ذلك الشِّوالَ والشِّوالين من الكرب والكشبار. يقول إنَّ حاجتهم من الحطب أكثر حاجتنا إليه، فهم يسكنون الماء، ويبحرون أعالي الأنهار العريضة، حيث لا يقيهم من البرد والشتاء الطويل إلا الموقد، وإذا لم يجدوا الحطب سيوقدون أرواحهم حسرات، أما نحن فعليها، يقصد اليابسة، فوقنا النخل وتحتنا الليف والحلفاء والحصران، بردنا أقل من بردهم وشتاؤنا أقصر. مضت السنوات الطوال، وتهدم ركن دارة الحطب، وتكشف السقف حتى انخسفت به السماء. ذهبت أمي الى بيت بارئها البعيد، ومضى أبي الى حيث لا يشعر بالشتاء ولا بالصيف. اليوم، قلتُ سأذهب، أبحث في ذنائب الأرض عنك، علني أجدك عند نهاية ما في اليابسة هذه، أردتُ أن أجلس معك، جلستنا تلك، امامنا صحن الكعك، نغمسه في اكواب الشاي بالنعناع، نتحدث عن شتاء تعجلنا في غييمات تناثرت هنا وهناك.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

نادٍ كويتي يتعرض لاحتيال كروي في مصر

العثور على 3 جثث لإرهابيين بموقع الضربة الجوية في جبال حمرين

اعتقال أب عنّف ابنته حتى الموت في بغداد

زلزال بقوة 7.4 درجة يضرب تشيلي

حارس إسبانيا يغيب لنهاية 2024

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

من دفتر الذكريات

العمودالثامن: هناك الكثير منهم!!

 علي حسين في السِّيرة الممتعة التي كتبتها كاترين موريس عن فيلسوف القرن العشرين جان بول سارتر ، تخبرنا أن العلاقة الفلسفية والأدبية التي كانت تربط بين الشاب كامو وفيلسوف الوجودية استبقت العلاقة بين...
علي حسين

كلاكيت: الجندي الذي شغف بالتمثيل

 علاء المفرجي رشح لخمس جوائز أوسكار. وكان أحد كبار نجوم MGM (مترو غولدوين ماير). كان لديه أيضا مهنة عسكرية وكان من مخضرمين الحرب العالمية الثانية. جيمس ستيوارت الذي يحتفل عشاق السينما بذكرى وفاته...
علاء المفرجي

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (2-2)الحكومة الجمهورية الأولىعشت أحداث الثورة في بغداد ثم عشت مضاعفاتها في النجف وأنا في الخامسة عشرة من عمري. وقد سحرتني هذه الحيوية السياسية التي عمّت المدينة وغطت على طابعها الديني العشائري.في متوسطة...
زهير الجزائري

ماذا وراء التعجيل بإعلان "خلو العراق من التلوث الإشعاعي"؟!

د. كاظم المقدادي (1)تصريحات مكررةشهدت السنوات الثلاث الأخيرة تصريحات عديدة مكررة لمسؤولين متنفذين قطاع البيئة عن " قرب إعلان خلو العراق من التلوث الإشعاعي". فقد صرح مدير عام مركز الوقاية من الإشعاع التابع لوزارة...
د. كاظم المقدادي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram