TOP

جريدة المدى > عام > قراءة الشعر وكتابته

قراءة الشعر وكتابته

نشر في: 7 فبراير, 2016: 12:01 ص

IIانا لا اعتقد، كما يبدو شائعاً، أن الأقدمين كانوا يفهمون الشعر الذي يسمعونه. الشعراء انفسهم؟ نعم الى حد كبير. وليس كل الشعر! فقد توقف بعض الشعراء عند بعض من شعر غيرهم وتساءلوا عما يعنيه. والكثيرون تساءلوا إن كان قوله صحيح اللغة أو ماذا يعني هذا البي

II
انا لا اعتقد، كما يبدو شائعاً، أن الأقدمين كانوا يفهمون الشعر الذي يسمعونه. الشعراء انفسهم؟ نعم الى حد كبير. وليس كل الشعر! فقد توقف بعض الشعراء عند بعض من شعر غيرهم وتساءلوا عما يعنيه. والكثيرون تساءلوا إن كان قوله صحيح اللغة أو ماذا يعني هذا البيت أو ذلك. التساؤلات كانت والاجابات المتعددة كانت أيضاً. لكنهم ما كانوا يستاءون او يتذمرون من ذلك. لم يشكل الغموض ولا الخطأ التعبيري إثارة. كانت تلك أموراً معتادة بين حين وآخر لأن الشعراء لا يشكلون تجمعاً ولا قراء الشعر او سامعيه في تجمع كبير او منتدى. كانوا افراداً، أو اصحاباً يجتمعون ساعة ويفترقون.
كما اعتقد بأن كثيرين كانوا يختزنون الشعر، يحفظونه مدّخرات وهم لا يفقهونه. كانوا سذجاً في الفهم ولا قدرة لهم على نفاذ. ثم أن أغلب الشعر كان كذلك. ظاهرة ولا عمق. تقليد، الاجتهاد فيه قليل نادر.
لا يكفي لأن نستشهد براوية او عالم لغة او نحوي لندحض الظاهرة. هذا حضور متخصصين، قل مدار مهتمين او رحبة رواة.
وهنا لابد من ان نؤكد الفارق بين البيئة العربية المعاصرة والبيئة الفرنسية او الامريكية مثلا. نعم، ثمة الاعداد الواسعة من الناس لا يقرأون، ولا يفهمون إذا قرأوا، الشعر هنا وهناك. لكن حديثنا الآن ضمن البيئة الثقافية. "ما لارمية" شاعر ليس واضحاً، معقّد أو غامض، أو غير مفهوم .. لكن السؤال: هل الصحف المنشغلة به والدوائر الثقافية والمنتديات التي تهتم بقصائده، وسيرة حياته، ورسائله، ورفوف المكتبات التي تتباهي بكتبه او الكتب عنه، هل هذا كله يحضر في مجتمع لا يفهمه؟
اظن مساحة الفهم هناك اوسع، لأن البيئة الثقافية اوسع وأكثر غنى واقرب الى عوالم الفنون. ما لارمية، ليس في شارع فقير. في الشارع مكتبات وصحف منوعة ومعارض رسم وقاعات للاوركسترا والبالية. والاشارة والرمز حاضران في هذه النشاطات كلها. الفهم أيسر والمرونة مع التعبير اكثر طواعية والاستغراب يتحول الى اقتراب اكثر و فهم.
نناقش هذه الحالة وقد انتهينا من سلامة اللغة الى الاجتهاد في الصياغات. أي في النتائج الفنية. لكن حين تكون اللغة قاصرة والشاعر غير معايش جيد للغته تاريخا وحاضراً، وتأتي التعابير لا نتيجة اجتهاد ولكن لبسْاً وسوء استعمال للمفردة أو النمط Pattern، نكون بازاء حال انتكاسي، حال هبوط مستوى. ببساطة شعبية، هي ركة واضطراب وهي عامية بصيغ أو فصحى! هنا صعب ان ننتظر شعراً متقدماً، ان ننتظر سموّاً أو كشفاً. سنظل في محيط العامية واحتياج الخطاب الاجتماعي النقدي – الهجائي او العاطفي- الجنسي ولا أفق لعالم آخر نقرأ الشعر ونشاهد الرسم ونسمع الموسيقى من أجله!
وهنا القارئ الجيد هو الذي يعتب الشاعر غير الجيد، هذا إذا افترضنا انه ما يزال، وبهذا المستوى، شاعراً! هنا النظرة للشاعر تختلف كلياً عن نظرة الناس هناك للكتب او لاسم وصورة "مالارميه". هنا غض نظر عن تقصير وانشغال عنه وهناك الرغبة في الوصول. لان اللغة جميلة والاجواء باهرة وثمة تشابك جمالات. القداسة، او الاعجاب يتسع ليشمل كل هيئة جميلة لانسان متـأمل يقولون: "كأنه يكتب قصيدة"!
في اجواء حضارية نابهة مثل تلك تجد لَهْبَةَ الشعر، الحس العالي به عند الكثيرين ممن لا يكتبون شعراً. لكننا حين نسمع من يسأل بنوع من عدم الرضا: أي شعر يكتب هؤلاء؟ فهذا يعني الرفض باستياء. ومثل هذا السؤال نسمعه اليوم كثيراً عندنا. نسمعه من مدرس العربية ومن الناقد كما من الذين ألِفوا الشعر تعبيراً جميلاً قوياً واشارات حتى لو كانت اشارة واحدة تحيله من نثر الى شعر. المهم الا يظل فقيراً مدقعاً، الاّ يظل نظماً او خطاباً عادياً. غزلاً، شتماً ولاشيء بعد .
الشعراء الجماهيريون قلة إذا كانوا مبدعين، مبدعين في ابتداع التعابير وفي الاشارات الجديدة وفي استحداثهم لأفق شعري جديد، أي إذا كانوا فنانين لا صحفيين ولا خطباء اجتماعيين، الشعر اولا.
من الذين حققوا شعبية مثيرة ومدهشة في بريطانيا الخمسينات والستينات، المدهش ديلان ثوماس. قصائده السحرية اربكت جيل الشعراء الانجليز في زمن ، وما كانوا قليلين. لم يكن هابطاً، كان لغةً وصوراً وبراعةً شعرية، كان متفوقاً و جديداً! والكلمة الأخيرة "جديداً" هي الحد الفاصل بين الشعبي التقليدي، الخطابي، وبين الابتداع الذي يغير مستوى الشعر في الزمن او المرحلة. لكننا لا نقول مثل هذا عن "وينترز" أو عن "لونجفلو" وهما يتمتعان بشعبية واسعة أيضاً.. قصائد ديلان هزات ابداع احدثت خضات جمالية.
هذا هو ديلان توماس الضليع في منطق "الاستعارة" يطلق فنا شعريا جديدا تماما:
شراييني الحمراء عامرة بالنقود
...........................
ادخل جبل صهيون في لحية الماء
..........................
كنيس حبة القمح
..........................
و
من ظلام "الحب" الرطب وشذوذ الممرضة
لا يستطيع اطلاق ضحكته المكتومة ...
ديلان ثوماس (ت 1953) وأودن قبله هما الاكثر اثارة  وبراعات اسلوبية واختلافا عن السائد الاعتيادي – ظلت القصيدة عند اودن وديلان توماس قصائد شعرية وفناً شعرياً وهما في خضم تعرية العيوب والرداءات البشرية. كشف عيوب، هجاء اجتماعي بأفق رمزي دال للأبعد، وبصياغات وبراعات تعبيرية جديدة، فائقة الجدة. "كنيس حبة القمح" ليست عبارة اعتيادية هي شعر وشعر جديد و "لحية الماء"، إذا رأيت الماء ينسكب بسعَة، ليست كلاماً اعتياديا هي صياغة شعرية، اللغة الاعتيادية للسياسيين والخطباء أو شتائم الباعة...
نعود لموضوعنا، كيف صار شعبياً؟ رأيي، ثمة نقاط تواصل بين الشاعر وجمهوره في اللغة. في المفردات واجوائها: اللحية والكنيس وشذوذ الممرضة والضحكة المكتومة عقب شذوذ الممرضة ..
قال الشاعر والدارس راندال جاريل: لو قرأ لي شخص نصاً شعرياً لم يعتد عليه او يألفه، سيقول لي : "لم افهمك!" هكذا هو رد الفعل دائماً! حين قرأوا وردز ورث اول مرة، رأوه حُمْقاً وانه شعرٌ تافه. وعقّب بايرون على شعر وردز ورث: "من يفهمه يمكنه اضافة قصة جديدة الى برج بابل! "وأحد أكبر النقاد في زمنه قال وهو يمتدح درايدن: "انه يخلط المعنى باللامعنى.."!
من هذه الامثلة نفهم أن وضوح لغة النص واجتماعية الموضوع ليسا وحدهما كافيين لشعبية الشاعر في الاوساط الثقافية. لا بد من جماليات تلامس الناس، افكارهم والمشاعر . ولا بد من وهج روحي يتلامع في الصياغات الجديدة. شاعر لايبتدع لغته الشعرية ولا موضوعاته وليس له افق معرفي وجمالي، يظل واحداً من العديدين المتوافرين ولا جديد!
الحذر من ان يكون الشاعر مقاليّاً في الشعر او خطيباً. خسارة الفن فادحة. أيضاً، لا بساطة اللغة ولا تعقيدها شرطُ فهمٍ او سمعه. أهمية اللغة الشعرية بجماليتها الصياغية ومحمولها الدلالي. الاستعارية المَرِنة مبعجة شرط الوعي الكامل بالمفردات. المهم: هو لغة تتقدم وتفتح أفقاً. لا البساطة ولا التعقيد هما المشكلة. للفهم و اللافهم بعد ذلك اسباب أخرى.
قال ناقد يوماً عن قصيدة ت. إس. إليوت "اغنية حب لا لفريد بروفروك"، وهو يبدي اعجابه بها، إنها مستحيلة الفهم! لكننا من بعد شهدنا طلاب وطالبات الكليات يحفظون مقاطع منها على ظهر قلب. لقد لامستهم حين اعانتهم الثقافة عليها وبعد ان ألفوها مدة كافية. لقد كان الشاعر متقدماً عليهم بسنوات. هذا يعني لكي نفهم شعر العصر لا بد من ان نكون ابناء حقيقيين لعصرنا. قال الشاعر جارل Randall Jarrell: "لو أن أحداً من جيل قديم سألني كيف أفهم أودن وديلان توماس، سيكون جوابي له: عليك ان تولد من جديد"!.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

تقاطع فضاء الفلسفة مع فضاء العلم

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة
عام

عباس المفرجي: القراءة الكثيرة كانت وسيلتي الأولى للترجمة

حاوره/ القسم الثقافيولد المترجم عباس المفرجي بمنطقة العباسية في كرادة مريم في بغداد، والتي اكمل فيها دراسته الأولية فيها، ثم درس الاقتصاد في جامعة الموصل، نشر مقالاته في جرية الجمهورية، ومجلة الف باء، قبل...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram