أجزم أن خبر تعليق المرجعية الدينية "الخطب السياسية" نزل نزول الثلج على قلوب الكتل السياسية التي أحرجها الانخراط النجفي، بكل ثقله، في الشأن السياسي العراقي بتعقيداته المعروفة. لا يستثنى من ذلك شيعة السلطة ولا سنّتها.
فالطائفة الاولى تضع نصب عينيها الفيتو الحاسم الذي رفعه السيستاني في وجه مشروع "الولاية الثالثة"، ومواصلتها رفع الصوت بضرورة إنهاء الفساد كخطوة ملحّة لأي إصلاح حكومي. ما الذي يمنع تكرار ذلك؟!
لقد خذلت هذه الطائفة "الموالية" مرجعيتها التاريخية، عندما أعطتها الأُذن الصماء ومحاولتها الفجة بالالتفاف على توصياتها وانتقاداتها الاسبوعية. فعندما دعت مرجعية النجف الى عدم "تجريب المجرب"، تم إفراغ هذه الفتوى السياسية من محتواها، وتم استخدامها كسيف ضد الخصوم السياسيين. وتمادى بعض قوى هذه الطائفة بتجريب المجربين ممن يشهد لهم المواطن العراقي بالفشل والفساد طيلة 13 عاماً.
ستواصل هذه الطائفة السياسية، المزايدة على الاحتجاج السلبي الذي لجأت إليه مرجعية السيستاني هذه المرة، بإلقاء التهم على الخصوم وعلى الشركاء، والتنصل عن أي قصور او تقصير.
قد تعمد هذه الطائفة بتناقضاتها السياسية الى التشويش على مواقف المرجعية طيلة الأعوام الماضية، ومحاولة إثارة الشكوك إزاء أية مواقف مستجدة للمرجعية، بهدف احتكار الساحة وإزاحة خصم لايملك طموحاً سياسياً خاصاً به.
أما مبعث ارتياح سنّة السلطة، فإنه يعود الى الموقف التاريخي الذي لعبته مرجعية السيستاني في مواجهة المدّ الداعشي في حزيران 2014. وكيف أفتت بضرورة الدفاع عن العراق وليس عن الطائفة، وإن تم تشويه ذلك ووضعه في سياق طائفي.
بالإمكان سماع بعض هؤلاء وهم يتنفسون الصعداء من عزلة شخصية كبيرة أرهقت ضمائرهم طيلة الفترة الماضية، وهي تتبنى مطالب شارعهم وجماهيرهم التي تقاسمتها المنافي ومعسكرات النزوح.
ففي الوقت الذي كان الـ "هؤلاء" يتنقلون بكل أناقة بين فنادق دول الجوار، وملامح الترف والدعة بادية على وجوههم، كانت قوافل إغاثة المرجعية تنتقل ما بين عامرية الفلوجة الى الضلوعية وحتى حديثة، وصولاً الى مدن إقليم كردستان للتربيت على أكتاف المهجّرين.
حدث ذلك، في الوقت الذي كان البعض يبتلع مليارات النازحين بكل صلف، ويتم منحه حصانة سياسية لمجرد انه يشغل منصبا مرموقا في التشكيلة الحكومية الجديدة. وقتها تحجج زعيم سياسي، لعدم تدارك هذا الفساد، بأن من شأن هكذا إجراء ان يوجه ضربة موجعة لمصداقية الكابينة الوزارية حديثة التشكيل وقتها. لقد فضل الـ"هؤلاء" مصداقية التفاهمات المحاصصاتية على حساب 3 مليونات نازح أحرقتهم شمس الصيف، ولوعهم برد الشتاء.
لقد أرهقت مواقف السيستاني، طيلة العامين الماضيين، شيعة وسنّة السلطة على السواء من دون محاباة ولا مجاملة، وسحبت منهم ورقتي الطائفة والدين اللتين اعتادوا لعبها في مواسم الانتخابات.
كانت خطب المرجعية ومواقفها الاسبوعية تمثل تعبيرا واضحا عن هموم العراقيين البسطاء والتي تحجب وصولها الى آذان المسؤولين جيوش الحمايات ومواكب المصفحات، أبواب المكاتب والفلل الفخمة. كان صانع القرار يكتفي مؤخرا بتخصيص نصف ساعة لسماع خطبة جمعة كربلاء ليطلع على أزمات البلاد من دون الحاجة للخروج من قصوره العاجيّة.
الآن، على الطبقة الحاكمة، أكثر من غيرها، ان تتحسّب لقرار تعليق الخطب السياسية، لانها فقدت بفعل ذلك قناة واضحة وصادقة لنقل هموم 30 مليون عراقي بشكل أسبوعي.
لكن المعنيّ الأبرز بموقف مرجعية السيستاني هي القوى الشيعية تحديدا بوصفها النخبة السياسية التي تقبض على مقاليد الحكم منذ 2003. على هذه القوى المنقسمة، التي لطالما ركبت موجة المرجعية، الإسراع ببلورة خطة إنقاذ وطنية تتعالى على المصالح الحزبية والكتلوية والاسرية، والخروج من الخصومات الضيقة والنظر مليّاً بحجم المخاطر التي تتهدد العراق كدولة وكيان سياسي.
أيضا، لا يمكن وضع موقف مرجعية النجف في سياق السيناريوهات الملتبسة التي يتم تداولها مؤخرا حول مستقبل البلاد، ومرحلة ما بعد داعش.
الأمر أبسط مما يعتقده البعض أو "يعقّده". فموقف مرجعية النجف ليس سوى صافرة إنذار لدهاقين الطائفية السياسية، ونزع لشرعية ممن رفع شعار المرجعية وتمثيلها والتماهي مع مواقفها.
السيستاني بوصفه بوصلة
[post-views]
نشر في: 6 فبراير, 2016: 09:01 م