شوارع بغداد، ليلاً، مضيئة كلها. قلت لنفسي: إنها مدينة لا تكف عن الضوء،إذن!الجادرية، تحديداً، لافتة للانتباه، انتباهي، أنا الغريب القديم، العائد بلا أمل يذكر، لكن الكرادة أكثر دفئاً وحركة، رغم أن الناس أقل كثافة في الشارع الرئيس قياساً بزيارتي السابقة.. سألت فقيل لي: ربما بسبب البرد أوالإرهاب.سألتني ابنتى عبرالهاتف: متى تأخذني إلى بغداد؟اضطربت وعلي أن أوجز حتى لو مجاملة: عندما يكف العراقيون عن النظر إلى السافرات بعيون مريضة.حين يكتشف شخص، رجل أو امرأة، في أماكن لندن العامة، أنك تنظر إليه يتضايق ويدير وجهه. أو يسألك باستنكار: لماذا تنظر إلي؟ فهو يعد ذلك محاولة لاختراق خصوصيته.بغداد مضيئة بشمس دافئة نهاراً وبمصابيح الطرق العامة ليلاً، لكنني أحسست بأنني أسير وسط العتمة باحثاً عن فانوس صغير يخصني.. فانوس يضيء تلك العتمة التي تلفني أو تخرج من أحلامي.".. ويرتفعُ الدعاءُ كأنَّ كلَّ حناجرِ القصبِ من المستنقعاتِ تصيحُ لاهثةً من التعبِ
تؤوبُ إلهةُ الدمِ، خبزُ بابلَ، شمسُ آذارِ
ونحنُ نهيمُ، كالغرباءِ، من دارٍ إلى دارِ". (1)
السياب معنا، يتناول شايه باستكان عراقي في مقهى رضا علوان، حيث اجتماع المدنية والانتظار، لنستعيد معه تاريخاً شاسعاً من الاغتراب ومرارة معتقة لا تنفع معها مليون ملعقة سكر في شايك يا أبا غيلان.وإذ أحارُ بعتمتي التي تلفني أو تخرج من أحلامي أخدع نفسي بفوانيس بغداد الصغيرة، وإن كانت شحيحة الضوء.الفوانيس شحيحة الضوء لا بسببٍ من قصورها الذاتي، حسب، بل لأن العتمة عميقة، شاسعة، ضاربة الجذور.
"جياعُ نحن، مرتجفون في العتمة". (2)
فوانيس كابية على هيئة شبان يبيعون المحارم الورقية في ظهيرة شوارع تحترق.. شبان مثل الورد، تكاد بشرات وجوههم تكتسي باللون نفسه: زجاج فانوس يخنقه دخان فتيلة مطفأة.نساء يشحذن بشكل مهين يفطر القلب. لا تُفاجأ إذا صادفت بينهن أمك أو أختك أو عمتك أو جارتك.من أين آتي بالضوء للجياع المرتجفين في العتمة، يا بدر؟
"ونبحثُ عن يدٍ، في الليلِ، تطعمنا، تغطينا
ونبحث عنكِ في الظلماءِ، عن ثديينِ، عن حلمة
فيا مَنْ صدرُها الأفقُ الكبيرُ وثديُها الغيمة
سمعتِ نشيجَنا ورأيتِ كيفَ نموتُ.. فاسقينا!. (3)
فوانيس بغداد التي أضاءت، يوماً، بزيت من نوع نادر: دم أبنائها وحبر شعرائها وجرأة متكلميها ووثبات ثوّراها وأحلام حالميها، لم تعد على ذلك التوهج، فثمة صخب ولا كلام وخطى بلا منهج وعيون بلا بصيرة إلا في وجوه قليلة عبر رحلة التعب، وغياب روح التعاون حتى بين سائقي السيارات وكل يقود عربته كأن الشارع ملكه وحده، لكن سائق تاكسي، يعشق مظفر النواب، رفض أن يأخذ أجرته مني إلا بعد أن "رميتها" على المقعد عبر زجاج نافذة السيارة (كان أستاذا جامعياً) وثمة استشراء الذكورة الفاقعة وبقايا "الحملة الإيمانية" و"ثقافة الحصار" التي رسخت مبادئ ميكافيللي الكريهة، والخوف من المجهول والمعلوم معاً، وعطالة جيل كامل من الشبان وسياسة تربوية تقودها عقول أميّة، وفي قلب المشهد كله يكاد لا يقف الإنسان إلا على عكازات وإن بدا سليم البنية.اتحاد الكتاب والأدباء فانوس تنويري وسط حصار المتخلفين والطائفيين."بيتنا الثقافي" فانوس آخر يحتفي بالكلمة المبدعة.
الفرقة السمفونية العراقية ترفع ألحان الإنسان إلى سمائه الملبدة بالأغاني الهابطة.المسرح الوطني فانوس آخر وسط العتمة.فوانيس أخرى هنا وهناك تحاول إنتاج الضوء.شارع المتنبي وملحقاته فانوس بغدادي وحديقة القشلة "هايد بارك" عراقية تتدرب على الجملة المفيدة وقاعة دار "المدى" فانوس آخر يضيء، حيث ثمة ندوة ثقافية كل جمعة تقريباً.بغداد ليست بحاجة إلى فوانيس فقط، بل بحاجة إلى من يوقدها.
فوانيس بغداد
[post-views]
نشر في: 8 فبراير, 2016: 09:01 م