الكائن الإنساني هو قبل كل شيء معمل لتصنيع الأوهام. وليس من المبالغة القول بأن تاريخ الإنسانية يُمكن أن يكون تاريخ الهلوسات المُحتملة من قبل الإنسان. بالتوازي مع ذلك، لا نعرف بالفعل، فيما إذا كانت الحيوانات أيضاً تتوق ـ مثلها مثل الإنسان ـ إلى ما يخدرها. ولكي لا نشغل أنفسنا بالبحث على إجابة لهذا السؤال، سنفترض ونقول "نعم"، لكننا سنظل جاهلين للأسباب التي تجعل الحيوانات تلجأ إلى هذه الوسيلة، وإذا كانت تفعل ذلك من أجل الهروب من الواقع، كما نفعل نحن، أو من أجل التلاشي عن نفسها بطريقة ما.
كل تلك الأسئلة خطرت في ذهني منذ 10 حزيران 2014، تاريخ دخول اسلاميّي الموظة الجديدة، أعني اسلاميّي داعش الى الموصل ومدن أخرى في شمال العراق، عبثاً حاولت طرد الفكرة من مخي. كلا، فعلى طول الأسابيع التي لحقت بذلك التاريخ وحتى هذه الأيام، لم تتركنا الكثير من الإعلانات، والكثير من الخطابات، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، التي احتفت أمامنا بافتتاح مرحلة جديدة في الشرق الأوسط والعراق. بعضهم يقول إنها ثورة، والآخرون يقولون إننا مقبيلن على عهد ازدهار جديد! ويكفي فقط الخروج للشارع لكي يدرك المرء التأثيرات الزائدة لمخدرات الكلام. حتى علماء الاجتماع الجهلة واظبوا وبحماس على كتابة مقالات رصينة تتحدث عن مستقبل المنطقة بعد دخول داعش على الخط، كما لو كان ممكناً تسمية كل هذه الزبالة التي نعيشها يومياً بالمستقبل. لا أدري فيما إذا كان المحللون وعلماء الاجتماع قد وقعوا هم الآخرون في الفخ، الذي مهّد الطريق له وقبل شهور، بل وقبل سنوات عديدة، رجال السياسة، بكل ما يملكونه من مكر وخداع، راحوا يبثونه على طول ساعات اليوم في كل النشرات الإخبارية، المرئية منها والسماعية!
لكن، وبعيداً عن تلك الكرنفالية التي تفترض الاحتفاء بعهد جديد، والتي لا تخلو في القسم الكبير منها من تأثيرات المخدرات، وما تحويه من هذيان افتتاح مرحلة اختفت أو همدت بشكل يدعو للتفكير. وعلى الضد من كل ذلك، لا أعتقد أننا نجافي الحقيقة، إذا ثبتنا الحقيقة التي آمل ألا تُرعب أحداً، بأننا صحيح دخلنا القرن الحادي والعشرين، لكن ما تفعله داعش وأخواتها من الحركات يقول، أننا ما زلنا في القرن العشرين، بل وأكثر من ذلك، أننا ما زلنا في القرن التاسع عشر. وإذا سمحتم لي حضراتكم أن أكون أكثر شفافية، فسأقول بأنني أجامل بقولي السابق، لأننا في الحقيقة، حتى لم نغادر القرون الوسطى تماماً. وإلا؟ افتحوا عيونكم، إن لم يكن الأمر غير ذلك، وانظروا حولكم. هل رأيتم صورة حشد جثث الشباب والشابات الذين ماتوا ويموتون يومياً ضحايا للثورات؟ هل رأيتم صور الرؤساء العرب الجدد وهم يسيرون على خطا أسلافهم في شكواهم جميعهم من المؤامرات التي تحاك ضدهم في الكواليس؟ هل تمعنتم بوجه الرئيس الأميركي الذي أريد له أن يكون الاستثناء، حتى حصل على جائزة نوبل للسلام، أوباما وكيف ينظر بنظرة "بريئة" باتجاه عالم لا يعرف عنه شيئاً ولو على الأقل عن طريق الأدلة السياحية؟
وأكثر من ذلك، هل سمعتم الحماقات التي احتوت عليها تحليلات كبار مثقفينا عن الخطر الذي ما زال يحدق بالأمة "المجيدة" وكيف أن علينا الاحتراز من الطابور الخامس ومن مكر الأقليات؟ بل أكثر من ذلك، هل تقرأون على الصفحات الثقافية لصحفنا المكتوبة بالعربية النقاش الفارغ الدائر في الدفاع عن هذا الكتاب أو ذاك؟ بل هل تقرأون قصائد شعرائنا "الفطاحل" التي ما زالت تتحدث فيها الأنا التي ستكتسح كل شيء، وستخرج لنا من "المكان"، لتمنحنا حياة جديدة، تاريخاً جديداً، مخدراً جديداً , لوهم أو مخدر عهد جديد؟ أما التبديل الحكومي في العراق والحديث عن الإصلاحات فهو هذيان فارغ لاغير. إن ما حدث، في النهاية، أننا دخلنا وبعنوة مرحلة جديدة مع داعش وأخواتها، وأن ما نعيشه هو تجربة معادة، مجرد رقم سيُضاف لتجاربنا الخاوية من أزمنة مضت وأخرى قادمة على الطريق. كم كان عددها؟ لا أحد يعرف، لأننا نودع عهداً ونستقبل عهداً جديداً، ونحن تحت مخدر وهم أننا نعيش زمنا جديدا!
وهم أننا نعيش زمناً جديداً
[post-views]
نشر في: 9 فبراير, 2016: 09:01 م