كلما دخلتُ عليك وجدتك تفتل بحبلك هذا، اما آن لك أن تنتهي عند حدٍّ معين فيه؟ تقول: لا هذا حبل اليوم، لقد أنهيتُ حبل البارحة، لكنَّ حبل الامس كان من الليف، وحبل اليوم هذا من الخوص قلتُ لكَ: فتضحك، مشيراً إلى خريطة من حبال حمر وخضر وصفر، لا حدود لها، راكمتها فوق بعضها، مثل ثعابين تفحُّ عليك، وقد سدّت عليك مداخل ومخارج البيت. ولعكَ بتمشيع الليف وتشليم الخوص هذا، يضاعف من ثعابين الأرض يا اخي. قلتُ لك. ثم أنك رحت تشرح لي ما تحتاج وتنتفع به من هذه وتلك، حتى وجدتني لا أحسدك على شيء أكثر من صنيعك هذا، وقد ملأت دارة أغراضك بما لو شئت، لأوقفت به محيط الأرض عن الدوران.
حين دخلتُ معك سوق العشار، الذي خلف جامع المقام، لم أجدك اشتريت شيئاً من حبال او شباك، وسوى من مغازل ودرافش ومخايط وسنارات ما حملتَ معك في جلّة الخوص التي كانت على ظهرك، اشتريتُ أنا أشياء كثيرة، كنت تعيب على هذا وذاك، أنهم لا يحسنون صناعةً، لم يتعلموا لفَّ يشامغهم على رؤوسهم حتى تقول. وكثيرا ما كنت تحدثني عن حكاية أثيرة لديك، تقول: بأنَّ أناساً استحسنوا رجلاً عند الخليفة، وذكروا الكثير من الفضائل التي له في حضرته، فقال لهم: أيحسنُ صناعة؟ فقالوا: لا، قال الخليفة: إني ليعجبني الرجلُ إذا سألتُ عنه، أيحسنُ شيئاً ؟ فإن قيل: لا، سقط من عيني. وفي باص الخشب، التي اخذتنا الى أبي الخصيب، على طول الطريق المتشابكة الظلال والأنفاس، رحت تحدّثُ الراكبين معنا عن حبال لم أجدها في دارة حبالك، عن أشياء لم تحملها معك في جلّة الخوص، عن أخيلةٍ لو أطلقتها في فضاء المدينة لوسعتها أمناً وعدلاً.
كنت تقيس بأصابعك -وهي معاييرُ لا تقبل الخطأ والخذلان- حدودَ عيني الميزان، كفتي القبّان، فتخصف في الخوص البليل حبلاً، تثنيه عند نقطة قريبة، وتعود تخيطه عيناً فعيناً، نازلا بمخيطك اللاصف حوض الزبيل، هي العروة الأولى قلت: وكأنها هي، أكملتَ الثانية والثالثة، فكانت المسافات بين العروات الثلاث متشابهة، حدَّ أنني لم أفرّق بينها، وهكذا رحت توثق العروات، كل واحدة بحبل يلتقي مع مثيليه في نقطة عُلوية، ولما أكملت عيني الميزان، كفتي قبّانك الذي من الخوص والحبال رفعت كلَّ واحدة بيد، ورحت تختبر أوزانها، وتسأل نفسك ما إذا كانت واحدة منها تزيد عن الأخرى بخوصة او خوصتين، بوشيعة حبل او بأكثر. ثم أنك رحت تحدثني عن النار التي ستلتهم جسد المطففين، وحاشاك أن تكون، وبيدين ما أطهرهما عند الله، عقدت أطراف الحبال الصغيرة، ورحت تدخل العقدة هذه بطرفي حبلي السِّيّ، وكأنني أختبر معرفتك. سألتك عن السِّيّ، والعصا المثقوبة من طرفيها وفي المنتصف، عن الحبل الذي يتوسط العصا الملساء هذه. وكأنني اتصفح معجماً، رحت تسمعني ما يعني إن السِّيّ من الاستواء، وهو اسمٌ، والمثنى منه سِّيّان وجمعه أسّوياء. قلتُ: ياه، لله درّك. وانا كنت أظنها مفردة من دارج كلامنا، او مما اختلط ودخل في كلامنا من العجم والأتراك.
سألتك عن الحبل الغليظ الذي ألقيته في النهر، فقلتَ هذا حبل المُقْلاص، سنخرفُ اليوم عذوق البريم، هي ثقيلة، بخلالها ورطبها ، سننزل العذوق بالمُقلاص والحبل هذا، كذلك سننزل بها عذوق البرحي، وهي الأثقل، وسيكون عوننا إن أردنا تطيّيحَ نخلة مالت من هرمٍ وقِدم، كيلا تطيحَ على شجرة عنب او فسيل صغير، نحن في المَغيبات، ستكون الريح هوجاء وسيصعد الماء، سنربطها من الأعلى ونتحكم في ميلها قبل ان تطيح على الأرض. ها أنت تعدُّ لكل غرض حبلاً، لتعليق سباحات العنب حبل ضعيف، وأغلظ منه بقليل لربط الجذوع ببعضها على القصب والسعف ساعة تعيد بناء خصٍّ تملصت بنودُه، واغلظ من هذا وذاك ما تربط به البقرة والبلم، وآخر ما تريده ربيجة وطبقية وخصراً للفروند، وهكذا رحت تعدد وتحصي فضائل الحبال على بعضها، وكما لو انك تقول لي بان الدنيا لا تساوي عندك حشفةً من دون حبال. ترى بأي من حبالك ستشدُّ خيالك الخَضِل النّديّ هذا، أيها الخصيبي الكبير؟
حبالٌ وأخيلةٌ وثعابين
[post-views]
نشر في: 13 فبراير, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...