كتاب دافئ. إنه تدوين أساطير الجنوب المفعمة بالحب والخوف والبكاء والفرح.. أساطير حقيقية "كتبها" أهلنا هناك من دون أن يكتبوها، فهي تجليات الأرواح الشغوفة بإطلاق كلماتها في الريح ولم تدر بأن ثمة من يجمعها من الريح ليعيد سردها من جديد.
كتاب "شفاهيات – مرويات عراقية جرت على الشفاه" لمؤلفه الشاعر والصحفي علي أبو عراق جهد توثيقي حي وإضافة لسجل الفولكلور العراقي شبه المحذوف من أدبياتنا العراقية التي أقصت هذه الثقافة الشفاهية بإقصاء أصحابها وأبطالها، من نساء ورجال، جزءاً من إقصاء أكبر غدر بمجتمع كامل يتوزع على تلك البلدات والقرى والأنهار من شمال العراق إلى جنوبه.
حكايات العشق والهجران والظلم وسوء المآل وقد استعادها أبو عراق ليضع أمامنا مشهد أولئك العراقيين المنسيين الذين مثلوا ،لمن سمعهم أو قرأ عنهم ولهم، نجوماً لا يعرفهم أحد، في الأهازيج والأغاني والدارمي وهي تمثل صوراً من الجنوب العراقي المثقل بالحزن والصمت والخذلان.في كتابه ، يشير المؤلف إلى أهمية "الثقافة الشعبية" باعتبارها نص الإنسان الأول ".. نحن أبناء القرن العشرين والذي يليه أثثت ذاكرتنا القصص والروايات والشعر والأغاني الحديثة شرقية وغربية، ولكننا لا نستطيع أن ندعي، قطعاً، بأننا مقطوعو الصلة بتراثنا الشفاهي من أغان وحكايات وأمثال وأشعار.. بل إننا أكثر قرباً لها على الرغم من جعجعة العصر، وأن الموقد أو ما يسمى بـ "الكانون" وحكايات الجدات وأشعار الدارمي والأغاني الموغلة في الوجد والصبابة والعفوية والعشق والبطولات والتضحية وقصص الجن والأشباح لم تزل تحتل الجزء الأكبر من وجداننا والمساحة الأوسع من ذاكرتنا".في أول تصديرات الكتاب "المرأة مجمرة الحزن الأبدي" ما يحيل قارئه إلى جذور الألم في تاريخ النسوية العراقية، منذ أنانا، العاشقة السومرية وحزنها الشاسع على أخيها "ديموزي" ليتواصل تراث الألم لاحقاً، بلا انقطاع ولا قطيعة، كأن هذا الألم قرين بنت الرافدين منذ الأزل وحتى اليوم.
فدعة بنت علي الصويّح: المفجوعة بأخيها لتتحول الفجيعة شعراً شعبياً يتردد عبر الزمن.فتنة: الفتاة الشجاعة التي تصدت للتابو ثلاث مرات.. في الأولى لأنها عشقت وفي الثانية لأنها اختارت حبيبها من ذوي البشرة السوداء، وفي الثالثة: قالت فيه شعراً وعلى رؤوس الأشهاد في دارمي ساحر:
"أسود وعاده والنوب اصبغه بزاغ/ منكر وداده وبلكَذلة احط دراغ".صورة لوركوية (أجراس لوركا) أخاذة: بقولها "بالكَذلة احط دراغ". "وعاده" تعني لا يهم، لا بأس، والزاغ مادة لتثبيت اللون (إصرار على غرامها بسواد سحنة حبيبها) والكَذلة هي "القذال" مقدمة شعر الرأس، والدراغ ناقوس صغير جداً، جرس.. وهي صورة شعرية رائدة. هذه الفتاة ختمت تحدياتها الثالثة برابع هو الأخطر الذي يبيح قتلها في أعراف الريف العراقي: قررت الهرب إلى الأبد مع حبيبها الزنجي الوسيم.ناهي السرهيد: من أوائل الإيروتيكيين العراقيين: "يزركَـ يبو نجوم خل الحصاد بليل/ ونذب الهدوم" مخاطبا الله أن يجعل وقت الحصاد ليلاً ليلتقي حبيبته وهما عاريان!.مجهولة: تدافع عن نفسها ضد التحرش الجنسي وتستنجد بحبيبها في لحظة ضعف:
"خليتني يهواي شتلة بثنية والراعي والحاشوش يفتر عليّه": شتلة بثنية: تعني نبتة وسط بيداء، والحاشوش هو قاطع الزرع، من "حشيش" وهو الكلأ اليابس، فصيحة حسب "لسان العرب".. و "يفتر عليّه": يدور حولي.
عشرات الحكايات والأغاني والشخصيات التي استعادها أبو عراق بمحبة وشغف وهو يدون الشفاهية العراقية بكتاب مشوّق وحميم، أميناً لمرويات الحزن والحب والهجران والانتفاضات والتمردات والخروج على لوائح السلطة الإقطاعية بسليقة الحرية التي جبل عليها أجدادنا وأمهاتنا وحبيباتنا الأوائل، في كتاب يرد الاعتبار للمهمشين والمحذوفين من أوراقنا المكتوبة.
شفاهيات العشق والبكاء
[post-views]
نشر في: 15 فبراير, 2016: 09:01 م