1-7
باستثناء غائب طعمة فرمان وإلى حد ما فؤاد التكرلي، لم يكتب أحد وبقوة عن اندثار بغداد الحديثة . غائب طعمة فرمان مثلاً، كنا نعرف، أنه يقيم في منفاه في موسكو، وعندما بدأ يزور بغداد في السبعينات وبعد صدور العفو السياسي أيام الجبهة الوطنية، رأيته مرتين أو ثلاث في مقهى البرلمان، لكن لا في السنوات تلك، لا قبلها ولا بعدها كان يأتي أحد على ذكر أحد هؤلاء الكتّاب، وكان يجب أن تمر سنوات طوال لكي أعرف بوجود الروائيين اليهود الثلاثة، الذين عاشوا طفولتهم وشبابهم في بغداد، قبل أن يضطروا للهجرة مثلي إلى خارج البلاد. اثنان منهم، سامي ميخائيل الذي هو في الحقيقة أكثرهم شهرةً، وشمعون بلاص الذي يعيش بين باريس وتل أبيب، لا يزالان أحياء. فقط ثالثهم، سمير نقاش، وكان أصغرهم في السنّ، غادر الحياة. صحيح أن ثلاثتهم انتقلوا (مع موجة خروج اليهود التي حدثت في بداية الخمسينات) للعيش في بلاد جديدة، لكن لا يهم عدد السنوات التي عاشوها بعيداً عن وطنهم القديم، فإن من يقرأ كتبهم يكتشف صعوبة تأقلمهم مع محيطهم الجديد. مواضيع قصصهم، أشكال الروي، ظلت أغلبها تغرف من مكان ولادتهم الأول: بغداد.
الإشكال الوجودي هذا، التأرجح بين هويتين، وتبادل ظرفَي المكان، الـ«هنا» والـ«هناك»، يمكن العثور عليه بشكل واضح في رواياتهم. ليس من المبالغة القول إن الكتّاب الثلاثة هؤلاء على وجه الخصوص، من بين كل زملائهم الآخرين من الكتّاب اليهود من أصل عراقي، ما زالوا يحتفظون بصورة بغداد التي غادروها عنوة عام 1951، يبثّونها ليس في أعمالهم الأدبية وحسب بل حتى في أحاديثهم. والأكثر غرابةً هو أن من يتابع أعمالهم المتأخرة يكتشف أن كبر السن لم يفعل غير تقريبهم أكثر من سنوات الطفولة التي ضاعت، سواء بالنسبة لهم أو بالنسبة للمدينة التي كانت عليها بغداد، قبل أن تطرد أهلها الأصليين وتتحول إلى مدينة يعبث بها العساكر المحليون والعساكر الآخرون القادمون من وراء الحدود، كأنهم، وبالرغم من الهوية الجديدة التي اكتسبوها، سيصحون ذات يوم من خدر الحياة «الجديدة» التي أصبحت هي الأخرى وراءهم، أو كأنهم ما إن يشيخوا، ولا تعود فيهم بقايا طفولة، سيكتشفون أن الهوية القديمة التي أُريد لهم (أو ظنّوا هم) نسيانها ما زالت هناك، تظهر أمامهم، سواء عاشوا في حيفا (سامي ميخائيل وشمعون بلاص) أو في بتاح تكفا (سمير نقاش)، تومض مثل ضوء فنار في كل سطر يكتبونه، إذا لم تومض مثل شعلة في «ظلمة» خريف حياتهم التي تقارب على الانتهاء!
يمكن عمل قائمة طويلة هنا من أسماء الكتّاب اليهود العراقيين الذين بدأوا بالكتابة لاحقاً في إسرائيل، والذين دارت كتاباتهم عن العراق: نعيم قطان، مثلاً، الذي كتب عن العراق وأجواء العراق بالفرنسية وعنده رواية اسمها وداعاً بابل، أو إسحق بار موشيه الذي ظل يكتب حتى وفاته بالعربية فقط، والذي كانت أغلب شخصيات كتبه شخصيات يهودية عراقية، أو ساسون سوميخ الذي صحيح أنه لا يكتب روايات، بل أبحاث ودراسات نقدية وترجمة، لكنه كتب سيرة ذاتية يدور الجزء الأكبر منها في بغداد، أو إيلي عمير الذي كتب رواية مطيرجي بغداد، وغيرهم. لكن أغلبية هؤلاء الكتّاب الذين يمكن اعتبارهم من جيل واحد (وإن كبر أو صغر بعضهم عن بعض)، لأنهم جميعهم هاجروا عام 1951، عام الخروج اليهودي الكبير من العراق، أقول أغلبية هؤلاء كتبوا عن بغداد إما ضمن سياق معين، كما عند ساسون سوميخ في سياق الحديث عن سيرته، أو إرضاءً لذوق الكيتش الشرقي، كما في بعض القصص والروايات، أو أنهم لم يكونوا من مواليد بغداد، إيلي عمير مثلاً.
يتبع
ثلاثة كُتّاب.. ظلت بغداد كل حياتهم
[post-views]
نشر في: 16 فبراير, 2016: 09:01 م