عن الأنثوية الحذرة أو بشائر الحضور
قراءة في شعر بلقيس خالد
- 1 -هذا هو الفصل الثامن من كتاب أعمل فيه عن حضور الانثوية الجديدة في الشعر النسوي العراقي، وبعد سنة من توقفي عن العمل في الكتاب أعود لاستكمله بشاعرة سادسة بعد فصلين عن الحركة النسوية في ال
عن الأنثوية الحذرة أو بشائر الحضور
قراءة في شعر بلقيس خالد
- 1 -
هذا هو الفصل الثامن من كتاب أعمل فيه عن حضور الانثوية الجديدة في الشعر النسوي العراقي، وبعد سنة من توقفي عن العمل في الكتاب أعود لاستكمله بشاعرة سادسة بعد فصلين عن الحركة النسوية في العراق و "الحركة الانثوية" الجديدة في العالم. فلا يعتبنّ اصدقائي الشعراء اني لم اكتب عنهم . يا اصدقائي انتم فحول وانا اكتب في الأنثوية!
أيضاً، أنا لست ناقداً أدبياً بل رجل معرفي اتحدث في الظواهر مثل الشعر والسياسة أو الانثوية في الشعر او المحلية والعالمية أو الشعر زمن العلم ... كما ليس كل شعر مما تكتبه النساء يعنيني، انا اهتم بما يقع ضمن اجواء الحركة الانثوية الجديدة في العالم وابحث عن التمرد والرفض للبطرياركي وعما يتصل بالراديكال وفعل التمرد والرفض الثوريين، لهذا ارجأت بأسف الشعر الفضائحي والمساوم الخانع للنظام الأبوي، لعل له فرصة أخرى.
هذه شاعرة هادئة. تكتب ما تشعر به وتراه بأقل الكلمات. لاعنف، لاقوة بلاغية ولا ردود تأديبية عما تستاء منه. هي في الشعر سيدة مهذّبة أيضاً. حين ارتأت ان تكتب هايكو كتبته لا محاكاة ولا تقليعة ولكن الايجاز والهدوء يناسبانها. وأنا وإن كنت لا افضل الكتابة باشكال تجاوزناها أقول: حسناً، كلٌ وما ارتأى. مع ذلك تمنيت ان تكتبه "دارمياً فصيحاً" لتحقق خطوة تحديثية، بدلاً من المحاكاة او سحر الاجنبي ، علماً بأن الهايكو موزون وله نظام خاص للقوافي... على أية حال، هذا شأن نقدي أتركه لأهله.
بلقيس ، أو قصيدتها الصغيرة، تسير بحذر. هي ملتمة دقيقة لا تسرف وتكتب على قدر ما توجبه اللحظة الشعرية. وهنا يبدأ الإشكال. نحن بإزاء مساحة شعرية وزمن رؤية صغيرين محدودين لمواجهة واقع الشارع والمكتب والاصدقاء وما قد يفاجئها من احداث واختراقات اجتماعية في عالم مرتبك ومتخلف مثل عالمنا. هذا يحتاج الى قصيدة، الى بناء قصيدة تستوعب المشهد او الحدث او التجربة. المقاطع الصغيرة، بضعة الاسطر، لا تستوعب عالم المواجهة. الخواطر والمقطوعات للانتباهات، للومضات الخاطفة.
ما أحمده لها انها ظلت امينة على نفسها ولم يستهوِها، ويخرجها عن طبعها، الإشكال الخارجي، السيااجتماعي. لهذا أثرٌ في المزاج والاتجاه. هي لم تسمح له بالإضرار بعالمها الهادئ، بحديقتها الأنيقة وسكينتها. الجو الأنثوي لبلقيس خالد خزانة مقتنيات صغيرة. بهذا خالفت كثيرات في مواجهتهن للخشونة والرعونة واللافهم وخبل التسلط الهمجي. واجهت كل ذلك بلطف، باستياء مهذب، بالابتسام الواهن للراهبة. كلمات لغتها الشعرية تلائمها تماماً. المحبة والحزم تصافيا!
انا قرأت الآنسة مور وديكنسون وبيشوب وسليفيا ثلاث، كما قرأت عربيات. مع تقديري لفارق الأفق المعرفي ورسوخ التجارب، فأنا، في جانب الكشف الانثوي، اجد في شعر بلقيس عراقيةً خاصة، أنثويةً بصرية ناشئة، بزوغ حذر في جو غائم. هي وديعة في المقاومة وعلى مبعدة منها. هي تتألم أو تهنأ بحشمة عائلية. هي لا تمتلك قوة كلمات ولا سعة حركة زميلاتها ،نضال القاضي مثلا، ولا جرأة ماجدة غضبان ولا الهجومية العميقة من خلال الألوان الاستعارية مثلما تفعل بجدارة فائقة إيمان الفحام. وما آخذه على بلقيس، عفوا على شعرها، انها لا تحتفظ بمنطقة عمل حميمة خاصة بها. هذا امتياز نجده واضحاً عند إيمان الفحام، فموضوعاتها واحدة ومشكلتها واحدة مهما كتبت واختلفت العنوانات.
لست في موضع المفاضلة، فلكل فضيلتها وامتيازها. لكني اردت القول ان شاعرتنا بلقيس "تكتب ما يعنِّ لها وما يستدعيها للكتابة فنحن نجد موضوعات واجواء متنوعة . ليست دائماً شاعرة نفسها، كما هي ليست بعيدة جدا عنها.
قد يكون مثل هذا للكثيرين، شعراء أو شواعر. لكن الشاعر الراسخ له موضوعات خاصة تميّزه وتحظى بجل اهتمامه. هو يتوسع ويتطور فيها. هو هنا "ناقد" حلمي وكاشف أمنيات وقد يكون بطل مقاومة، له منطقة حياتهِ الشعرية الدائم الحضور فيها.
فأنا لو سألت نفسي. ما هو موضوع بلقيس؟ عمَّ تكتب؟ واقرأ كتبها الثلاثة، لا استطيع تحديد جواب. ولكني سأتوزّع فيما يشبه الأحوال الصوفية. وشعرها لا يعدم صلة بذلك. الفاصل موجود ولكنه يشف ولا يصد بقوة:
حين أمطرت
قرّبت سندانات الزهور
أتأمل ظَلَمة الأشياء.
وهي تنظر للسحاب وتقول:
يا ظمئي!
في "يا ظمئي" موضوع وجع كامل! وهنا الـ "يا" غادرت كونها للنداء الى "التنبيه"، كما يقول النحويون، او العجب من سعة أو شدة الظمأ! " يا ظمئي" هذه مؤلمة ولا تخلو من انكسار غشيهُ جمالُ الشعر!
كما اني أجد نقداً نسوياً "حديثاً مما تكتبه الناقدات الانثويات" في جملتها الشعرية:
أتأمّلُنا
في حكاياتهم
لا حاجة للايضاح. هي تقول: هم مخطئون. لسنا من يتحدثون عنهن، هم يتحدثون عن أنفسهم: هي تقول بمثل ما قالت به الناقدات الأنثويات في قولها:
ضع شمساً
لهذا الصباح !
ضمن المعنى العام، هي ايضاً نهارات المرأة. وهو البحث عن شمس تجعل النهار نهاراً والحياة حياةً. هذه الحياة، حياة تنقصها الشمس، بكل رمزية الشمس!
امتياز آخر للشاعر الجيد، هو "الفِطنة" واعني بالفطنة ما يسميه الانجليز Perception. ان يكون الشاعر فطِناً Perceptive ! وهذه المفردة، تختلف عن حضور البديهة. تلك wit . حضور الاجابة او الطريفة او التعقيب. وهي امور لا تعنينا. لسنا بصدد شعراء النكات والطرائف. نحن بصدد الشاعر الجاد النَبِه ذي الفِطنْة الفكرية والشعرية كأن ترى أصَص الزهور التي اسمتها سندانات، فتنتبه للمعنى. ترى السحاب فتنتبه لنفسها. بلقيس خالد شاعرة فَطِنَة. هل هناك ما ينقص شعَرها؟ نعم . الثقافة النقدية والثقافة الأنثوية على التحديد واعني بالأنثوية هنا، متابعة، ان لم تكن المشاركة في الحركة النسوية العظيمة في العالم اليوم، ومتابعة الكتابات النسوية نصوصاً، نظريات تحليلاً ونقداً انثوياً. العبارة الأخيرة تشير الى اتجاه نقدي نسوي خاص صار يغير الكثير من المفهومات الشائعة. ويعيد النظر في القراءات. بعد هذا، إذا كتبت الشاعرة وأرادت التعبير عن ذاتها النسوية وعالمها، كتبت عميقاً وبرؤية ثقافية . الحس وحده غير كافٍ للشعر.
ربما هي بسبب ذلك تتحاشى المواجهات الصعبة، الاصطدام، على خلاف الانثويات. هي أيضاً تنأى عن الاعجاب والتباهي بالذات كما تفعل عادة الكاتبات النسويات لمزيد من التحدي و لتعمدّهن الانتقاص من الواقع الذكوري. طبعاً عالم "الانثويات" في أوروبا واميركا، هو غير العالم العراقي الذي ما يزال ، ضمنياً، اقطاعياً، أبوياً. نتائج الاختلاف معه لها علاقة بالخبز والسلامة والاحترام الاجتماعي. وليس كل امرأةٍ مستعدة للمغامرة بهذه الثلاثية. لذا فهي تكتفي باشارات مؤثرة تمنح القارئ سعادة صغيرة، ملامسة للمعنى وتتيح له مشاركة في الانتباه. هي تفهم المتاعب والاشكالات النسوية فهماً اخلاقياً. من هنا الأناة والتسامح العفّ وشبه الحلم.
الحركات النسوية في العالم اليوم تظاهرات احتجاجية عالية الصوت وبيانات وجمعيات وصارت لهن منشوراتهن من مجلات وسلاسل كتب. وصرنا نقرأ نقداً انثوياً جاداً وعلمياً وكلها تطالب، تدين، تتحدى الواقع بقوة وثِقَة. وهنا، على صعوبة المقارنة، انثوية "بصرية" حذرة وخجول. هنا يحيط بها أكثر من ولي أمر! مع ذلك، هناك "وضوح خفي" ، ثمة بزوغ أولي لانثوية لا يسمح لها الجو بالنمو .. هذه يجب العناية بها. هي البدايات التي نريد مهما ضؤلت. لهذا بدأت الكتابة عنها بعدما ترددت كثيراً وأمامي جملة أسماء .. كتاباتها الاخيرة، شجعتني اكثر على تفحص عالم بسيط ولكنه يبشر بما سيأتي!