القسم الأوّل
لا آملُ في شيء ،،، لاأخشى شيئاً ،،، أنا حرٌّ
عبارة مكتوبة على شاهدة قبر كازانتزاكيس
يمثل المخرج العالمي ( وودي آلن ) - إلى جانب ثلّة من المخرجين - ظاهرة فريدة في السينما العالمية منذ أن بدأ مهنته المسرحية والتمثيلية ومن ثم الإخراجية عام 1950 ، وتعدّ نشاطاته الإبداعية المسرحية والسينمائية والكتابية نموذجاً للتطور الديناميكي الخلاق الذي يطال أفكار المبدعين . ولن أغفل يوماً عن مدى المتعة المصحوبة بالتفكّر العميق التي تجتاحني كلّما شاهدت فلماً من إخراج هذا المخرج العبقري الذي يجيد ( مثل غيره من المخرجين العباقرة ) تناول مفردة صغيرة منسية من مفردات الحياة اليومية ثم يمضي في جرّنا جرّاً للتدقيق في مدى غفلتنا عنها حتى وهي حاضرة أمام أعيننا. ويصح الأمر ذاته مع ثيمات الحياة الكبرى التي يلقي عليها ( آلن ) أضواء كاشفة عن جوانب خفية فيها ماكانت لتطرق بالنا لولا عبقرية المخرج الرؤيوية ، ولن أنسى أيضاً عبارات ( آلن ) الثرية المختزلة والمحبوكة في الصياغة والفكرة ، وأذكر كم كانت دهشتي عظيمة عندما كنت مولعة بقراءة الأدبيات الخاصة بتأريخ الرواية وتقنياتها ومنها رواية الخيال العلمي التي دفعتني لقراءة مبحث أكاديمي ضخم عن فلسفة الذكاء الإصطناعي . وكان مبعث دهشتي حينذاك أن إحدى الفصول الخاصة بالدماغ البشري زيّنتها في مفتتحها عبارة منقولة عن ( وودي آلن ) وردت في أحد أفلامه ، ثم أعقبتها عبارة مأخوذة عن كتاب ( أبواب الإحساس ) للكاتب ( آلدوس هكسلي) .
اعتدتُ ولسنوات عديدة خلت وبعد أن أفرغ من مشاغلي في الكتابة الروائية أو القراءة أو الترجمة أن أشاهد فلماً على التلفاز او مقطعاً فديوياً وثائقياً في شتى الاشتغالات المعرفية التي أحسبها ضرورة لازمة لإثراء العدّة المهنية لأي كاتب ( والروائي بخاصة .) وحصل قبل بضعة أيام أن لمحت شريطاً قصيراً يتحدث فيه المخرج ( وودي آلن ) فوجدتني على الفور أغوص في تفاصيله ومشاهدته مرات عدة لاسيّما أن المعروف عن ( آلن ) هو التبسّط المحبب في طرح أفكاره وكأنه يحكي عنها في مشهدية من مشهديات أفلامه . ولم يكن ماشاهدته في ذلك الفديو القصير ليختلف عمّا عهدته في أفكار ( آلن ) المدهشة عندما يحكي عن ثيمات صغيرة أو ملحمية في هذه الحياة .
يبتدئ ( آلن ) الفديو بهذه الكلمات الحاسمة : ( لاتوجد إجابة متفائلة حول قسوة هذه الحياة مهما تحدّث الفلاسفة أو رجال الدين أو علماء النفس بغير هذا - إن جوهر مايُقال هو أن هذه الحياة لها أجندتها الخاصة وأنها لاتسير كيفما تريد وأننا جميعنا سوف ننتهي إلى مكان سيئ في يوم ما قريب أو بعيد ، وكلّ ماعليك أن تفعله - كفنّان - هو أن تصنع أشياء تشرح فيها للناس أن الحياة شيء إيجابيّ ذو معنى ....... ) .
كنت أراقب الفديو الذي يتحدث فيه ( آلن ) وأنا أتوقع تصريحاً أو عبارة استثنائية صارخة مثلما اعتاد المخرج أن يفعل في أفلامه ، وبالفعل تحققت توقعاتي في اللحظة التي راح فيها ( آلن ) يقاربُ موضوعة ( الغائية ) في حياتنا : ( الحقّ لايمكن للفنان أن يفعل ذلك الأمر من دون أن يخدع الناس : لايمكنك أن تكون صريحاً لأن الحقيقة الصارخة هي أن الحياة بلا معنى !!)
جميع التعليقات 1
إبراهيم سعد الدين
مقال رائع لكاتبة اسْتثنائية بحقّ، موهبةً ولُغةً وفكْراً وثقافةً وأسْلوباً.