كل الشعراء في العالم تأملوا لحظةَ التحول من عام فائتٍ إلى عام جديد. تلك "اللحظةُ" العاريةُ عن الصحة، التي تنتسبُ إلى التجريد، سرعان ما تصبح داخلَ الوهم بالغةَ الكثافة في اللون والطعم والرائحة. وكأنها أصابعُ شبحٍ تُقبل من الغيب، لتطفئَ برقّةٍ مثيرة للارتياب شمعةَ عامٍ برمته. هو عامٌ بالغُ الثمن من عمرك أنت، وعامٌ بالغُ الرخص من عمر الزمن.
أحدُنا لا يجرؤ أن يُلقي نظرةً، ولو عاجلة، على خزينِ شموعه المتبقية. فهو يستعيدُ بيسر تلك الشموع التي ذوتْ وانطفأتْ وراءه، أما الزمنُ الذي لا حدود له فيسعى دون خزين من شموع، بالغَ الصَلَفِ، بالغَ الصخب. خطاه عاصفةُ الوقع، وعباءتُه دون لون، ولها وطأةُ الجبال. ما من شبهٍ بين لحظاته ولحظاتِ عامنا الشخصي الراحل، أو عامنا المُقبلِ الذي ننتسب إليه عن غير إرادة. حتى لنبدو أننا لا ننتسب إليه من بعيدٍ أو قريب. ولعل هرجَ الناس، وصرختَهم، التي تُشبه صرخةَ الطفل لحظةَ الولادة، حين تحلُّ عليهم تلك "اللحظة" الإيهاميةُ من التحول، ماهما إلا ردة فعل غير واعية لتلك الرؤية الخاطفة لأصابع الشبح تُقبل من الغيب لتطفئ شمعة العام، أو لهيئة الزمن الماردة، التي تعبرنا كما تعبر حقلاً من القش. "لحظةُ" التحولِ صارخةٌ دائماً. وطبيعةُ صرختها بالغة الغموض، وليس يسيراً على أحدنا أن يثق بفهمه لتلك الطبيعة. ولذلك تدبّر الانسان، بفعل الإرث الغربي، فاعليةً ناشطةً من القبل والعناق والتهنئة، وكأنه يسعى عن غير وعي لطمس معالم تلك "اللحظة" الإيهامية، المربكة، المرتبكة، وبعثرتها قدر الامكان قشةً في حقل القش الذي تعبره خطى الزمن المارد.
في واحدة من قصائد الشاعر الروسي، الحائز على جائزة نوبل، جوزيف برودسكي (1940ــــ1996)، يتأمل "لحظة" التحول هذه في قصيدة بعنوان 1 January 1965، كتبها وهو بعد في الخامسة والعشرين، وكان في غمرة احتجاجه على السلطة الشمولية، وملاحقته من قبل مرتزقتها من رجال الأمن ورجال الأدب، واعتقاله، قبل أن يُوفق في الهرب إلى الغرب، والإقامة في أمريكا عام 1972.
سيغفل رجالُ الحكمة عن اسمك.
وفوق رأسك ما من نجم سيلتهب.
وسيبقى الصوتُ الممل كما هو
هديرُ العاصفة الأجش.
الظلال تسقط من عينيك المتعبتين
كما تذوي الشمعةُ بجوار سريرك الموحش
لأن التقويمَ هنا يَنسُلُ أياماً تترى
حتى يخلو خزين الشموع.
ما الذي يحفزه مفتاحُ الأسى هذا؟
اللحنُ المألوف منذ زمن
يعود ثانيةً. لذا فليكن..
دعه يتواصلُ بدءاً من هذه الليلة.
دعه يتواصلُ في ساعة موتي
كامتنان تقدمه العينان والشفتان
للذي يحفّز فينا رغبةَ التطلّعِ
عالياً إلى السماء البعيدة.
أنت تتوهّجُ بصمتٍ على الجدار.
في حين يفغرُ خزينُك فماً: فما من هدايا فيه.
واضح أنك من كبرِ السن
لم تعد تثق بوعدِ القديسين؛
ولم يبقَ مُتّسع من الوقت للمعجزات.
ــــ ولكن فجأة، وأنت ترفع عينيك
إلى ضوء في السماء، تتبيّن
أن حياتك محضُ هدية صافية.
"لحظة" التحول
[post-views]
نشر في: 21 فبراير, 2016: 09:01 م