منذ الفجر الفائت حتى الفجر الموشك وأنت تقلّب الأفكار على شكل كتب، أو الكتب على شكل أفكار، تختلط المشاهد بالذكرى ويتوقف الوقت عند كلمة، أو صورة، أو سانحة، ما زالت القهوة بالبندق، تلك التي تناولتها في مقهى رضا علوان/الكرادة، ببغداد، تلحس لساني، وغرام فتاة تسيء الظن بالقبل، وتخاف على شفتيها من الفضيحة، وهي ترى إلى تلك القبلة المبللة التي نسيتها على غصن أخضر، ولكنك تتمهل احتراساً من ظنونك الشخصية عندما يقودك لا وعيك إلى وعيك وبالعكس، لكأن السوريالية اختراع الشجاعة التي تحارب الثورية بالثورية، وأنت لست أندريه بريتون لتشتم جوزيف ستالين وتسافر إلى المكسيك لتلتقي ليون تروتسكي، وتكتب معه بياناً مشتركاً ضد النسيان والإذعان والاستجابة، وهي ثلاثة أسباب كافية لطرد لويس أراغون من المجموعة، بعد أن كتب قصائد ضد الاحتلال النازي لباريس، وصفها بنجامين بيريه بأنها "غنائية جمالية لا تتجاوز إعلان صيدلي"، بينما تلك الفتاة تزيح طرف الستارة الأيمن لترى ماذا يحدث لهذا المخلوق وتغطي نهديها بطرف الستارة الأيسر، وتستغرب سؤالي: ماذا تكتب الليلة؟
قدم لنا معلمونا السرياليون، في الفن، مقترحات متناقضة بشأن الاجتماعي والجمالي، فهم حاربوا فاشية الجنرال الإسباني فرانكو (لويس بونويل ولويس أراغون أشرفا على عمليات تهريب السلاح عبر الحدود دعما للثورة خلال الحرب الأهلية الأسبانية) لكن آخرين (بروتون وبيريه) فصلوا بين الفن والسياسة فإن تشارك في تظاهرة أو تحمل السلاح ضد الفاشية لا يعني أن تكتب قصيدة "عن" التظاهرة أو تمجد المقاومة!.البنت، لم تكن من بنات أفكاري، أغمضت عينيها لتراني بوضوح.. وأنا أنتقل من السريالي إلى السياسي إلى الغرامي!
لم أشأ أن "أشرح" المناطق الممنوعة في التفكير العقلاني الذي ينادي به العقلانيون، وأنا أتنقل بين أكثر من باب ونافذة، بحثاً عني في كل هذا.
وأخيراً، حسمت البنت ترددها ودخلت ،عبر النافذة، أو أنا من فتح النافذة لها لتدخل، فهي ليست من بنات أفكاري، بل هي من صناعتي لنديم أو محاور أو أي شخصية مضادة تحرضني على التفكير.
احتدامات الشاعر هي هذا كله، بل أكثر منه، لكنني عدت إلى قاعدتي سالماً: الشعر! أو توهمت عودتي سالماً، فأنا مثقل بجراح الذاكرة والكتب وما يتولد منهما من اشتباكات دامية لا تقل خطورة عن اشتباكات الحروب.
صبر المسافة على نفسها لا يعني أنها واقفةٌ، لأن المسافاتِ مولعةُ بمغادرة المكانِ، وحدها تلك القبلة المعلقة على الغصن، لم تتحرك، بانتظار من يعيدها إلى سببها، هل نسيتها البنت هناك، على الغصن، بعد أن انتظرت طويلاً ولم يأت أحد.قبلةٌ منسية على غصنٍ وسط مسافة صبورة يعني أن حادثة حب قد حدثت سواء جاء ذاك الذي انتظرته البنت أو لم يجيء.. سوء الظن يمضي بالبنت إلى غروبها المثقل بالسؤال: هل سيتعرف أحد المارة على القبلة فيعرف شفتي؟ قالت لنفسها: ليتها تمطر فتذوب القبلة وتتحول المسافة إلى حقل من عشاقٍ ينتظرون طويلاً في غروب ماطر.
جلست لصقي وأنا أقرأ لها قصائد من جورج شحادة:
"لا الأمل ولا الحظ
بل في الزهرة الصغيرة الناشفة في كتابٍ
لم يبق منه إلا رماد الحب
-كيف لنا أن نموت
عندما نكون قادرين على الحلم". (*)
فزّت عينا البنت ثم التمعتا بنور صغير أضاء المكان كله قبل أن تهتف بصوت يرتعش:
-نعم، نعم، عندي زهرة صغيرة ناشفة في كتاب لم يبق منه إلا رماد الحب..
رددت أنا: إذن، كيف لنا أن نموت عندما نكون قادرين على الحلم؟
(*) سراً ينفض الفجر بتلات القناديل (الحصة العربية من السريالية) – تقديم، انتخاب وترجمة (عن الفرنسية) رشيد وحتي، منشورات "انتهاكات" كتاب ثقافي غير ربحي.
لحظة سريالية
[post-views]
نشر في: 22 فبراير, 2016: 09:01 م