2-7
الكتّاب البغّادة بامتياز يظلون هم كتّابنا الثلاثة: سامي ميخائيل وشمعون بلاص وسمير نقاش، ليس لأنهم كتبوا روايات دارت أحداثها في مدينتهم الأولى بغداد، بل لأن هؤلاء الثلاثة جسّدوا الصراع الوجودي هذا، التمزق بين هويتين، في حياتهم وفي أعمالهم، أكثر من بقية زملائهم الآخرين. الأمر بالنسبة لهم لا يتعلق بذكريات وفقدان فردوس ضائع، حضارة ضائعة، وحسب. الأمر بالنسبة لهم أكبر، له علاقة بالمحنة الوجودية الكبرى للإنسان، بالسؤال الكبير: ماذا يعني الانتماء إلى هوية أو وطن؟
«أن يتجرد الإنسان من الأشياء التي ينتمي إليها فتلك مأساة، لكن أن يُسلب الإنسان نفسَه فتلك كارثة حقاً»، بتلك الكلمات عبّر الكاتب سمير نقاش عن محنته ذات مرة. لنتخيل أن نقّاش، المولود في بغداد عام 1939، يقول تلك الكلمات على الرغم من أنه غادر بغداد وله من العمر 12 عاماً، فماذا يمكن أن يقوله الاثنان الآخران، اللذان وجدا نفسيهما مضطرَّين لمغادرة بغداد، سامي ميخائيل المولود عام 1926 في بغداد، الذي كان في أواسط العشرين من عمره والذي كان في الأصل شيوعياً هارباً من بطش السلطة في العراق إلى إيران، قبل أن تقنعه وكالة الهجرة الصهيونية إلى إسرائيل في العاصمة الإيرانية طهران بإنقاذه عن طريق تهجيره إلى إسرائيل، وشمعون بلاص المولود في بغداد عام 1930، الذي كان في الحادية من العشرين من العمر وكان شيوعياً هو الآخر، بالضبط في وقت تزايد خطورة وضع الشيوعيين في العراق، الأمر الذي جعله يقرر الهجرة إلى إسرائيل لإنقاذ رأسه؟
التمزق الوجودي هذا، الذي عاشه الكتّاب البغّادة الثلاثة هؤلاء، يجد مثاله أيضاً في ترددهم في المراحل الأولى من حياتهم الأدبية، باختيار اللغة التي عليهم الكتابة بها: اللغة العربية التي نشأوا وترعرعوا عليها أم اللغة الجديدة المكتسبة؟ ربما كان سامي ميخائيل الوحيد الذي حسم هذا السؤال مبكراً وبدأ الكتابة باللغة العبرية، على عكس زميليه الآخرين. فإذا كانت اللغة العربية هي اللغة التي كتب بها شمعون بلاص روايته الأولى "المعبرة" في عام 1964، قبل أن يقرر لاحقاً اختيار اللغة العبرية لغةً أدبية لأعماله اللاحقة (حتى رواية المعبرة نقلها بنفسه إلى اللغة العبرية)، فإن سمير نقاش، الذي هو في الحقيقة استثناء كبير من جيله، لأنه، ورغم تركه العراق وله من العمر 13 سنة، ظل حتى وفاته متعصباً للكتابة بالعربية، كما أبدى موهبةً استثنائية بإتقانه المحكية العراقية، كما أنه كان يحفظ عدداً كبيراً من الأمثال الشعبية العراقية التي يمكن ملاحظتها في قصصه ورواياته ومسرحياته، حتى أن بعضها حوى هوامش وفهارس لشرح الأمثال والكلمات البغدادية الدارجة تلك.
التأرجح اللغوي، أو الانفصام هذا، يصفه شمعون بلاص في كتاب سيرته الذاتية بـ«الضمير الأول»، إذ يروي كيف أنه لدى عودته ذات ليلة متأخراً من عمله في المطبعة، ومباشرةً بعد قراره اختيار الكتابة بالعبرية، حمل في يده قبل الصعود للنوم كتاباً لطه حسين لأجل فحص شيء ما لا يتذكره، ولكن بعد أن أطفأ النور هاجمه مدٌّ رهيب من الكلمات والجمل وأبيات الشعر بالعربية، مثل سدٍّ انهدم فجأةً، أطار النوم من عينه حتى الصباح. وكان ذلك إشارةً، بالنسبة إليه، لانتقام العربية منه، كما تعود على أن يقول لنفسه، العقاب المستحق له على ما يبدو لأنه أدار ظهره للغته الأم المحبوبة والحميمة، كما عبّر بنفسه. الانفصام اللغوي يمكن حلّه عن طريق الانحياز إلى لغة أدبية جديدة. لكن ماذا عن الانفصام بين حياتين؟ الحياة التي بدأت هناك في بغداد والحياة الجديدة التي كان عليهم الشروع بها وهم شباب يافعون؟
يتبع
ثلاثة كُتّاب.. ظلت بغداد كل حياتهم
[post-views]
نشر في: 23 فبراير, 2016: 09:01 م