TOP

جريدة المدى > مقالات رئيس التحرير > كلّنا تكنوقراط...!

كلّنا تكنوقراط...!

نشر في: 23 فبراير, 2016: 08:47 م

شاع مصطلح التكنوقراط بعد أن طلب السيد حيدر العبادي من البرلمان تفويضاً بتشكيل حكومة تكنوقراط خارج دائرة المحاصصة، حتى بات المصطلح بحدّ ذاته همّاً يُشغل الرأي العام ويتخذ له أبعاداً شعبية "مُلهِمَة"، حول ما قيل إنه حلٌ سحريٌ شافٍ سيفكك كل أزمات البلد،

شاع مصطلح التكنوقراط بعد أن طلب السيد حيدر العبادي من البرلمان تفويضاً بتشكيل حكومة تكنوقراط خارج دائرة المحاصصة، حتى بات المصطلح بحدّ ذاته همّاً يُشغل الرأي العام ويتخذ له أبعاداً شعبية "مُلهِمَة"، حول ما قيل إنه حلٌ سحريٌ شافٍ سيفكك كل أزمات البلد، ويستجيب لمُراد المغلوبين من العراقيين.

وتحوّل هذا الانشغال إلى سببٍ آخر للمنافسة على مقاعد الوزارة "التكنوقراطية"على نطاقٍ أوسع مما كانت عليه مذ صارت كراسي الحكومات المتعاقبة، حكراً على القيادات الطائفية المتنفذة باختلاف مذاهبها وأعراقها. فما دام قادة الكتل وأعضاء الأحزاب الحاكمة وذووهم خارج دائرة المنافسة، فالطريق بات سالكاً ليجد كل عراقي فرصته في أن يصبح وزيراً لأول مرة منذ ظهور الدولة العراقية في أوائل عشرينيات القرن الماضي.
وتركز جانبٌ مهمٌ من هذا الانشغال على معنى التكنوقراط. وليس المهم، حسب ما يتداوله المواطنون، المعنى كما يرد في الويكيبيديا أو قاموس معارف " كوكول" المتاحة لكل من يكتب ويقرأ، وإنما كما يرد في قاموس قادة العملية السياسية ورؤساء الكتل البرلمانية والمستشارين الذين عينهم السيد مقتدى الصدر أو من أشاروا عليه بأسمائهم. ولم يتوقف المواطنون وهم يتبادلون الرأي والمشورة حول "الصرعة " السياسية الجديدة التي نزلت عليهم فجأة دون مقدمات، عند مفهوم المصطلح من وجهة نظر السيد العبادي، لأنه في نهاية المطاف سيرضخ لما سيقرره قادة التحالف الوطني والكتل الأخرى التي بإرادتها سيصوت البرلمان بالقبول او الرفض على التشكيلة التكنوقراطية.
وقد لا يعرف المواطن المنشغل بالوقوف على الأسرار الدفينة للنازلة التي حلت به دون سابق إنذار، إن القيادات السياسية المقررة، وهي تطرح اشتراطاتها و"توصيفها" لمن تنطبق عليه الصفة المطلوبة في "التكنوقراطي"، لا تُدرك أن أول ما يعنيه الانتقال من حكومة المحاصصة الى حكومة التكنوقراط، هو انتقالٌ مفهومي، منهجي، يزيح ما له علاقة بمفاهيم المنظومة الطائفية المحاصصية " التوافقية"، لأنه من حيث الجوهر يشكل انتقالة من خيارها كمنظومة ما قبل المدنية، بالمفهوم الديمقراطي، الى فضاء مناقض لها كلياً، حيث يجري اختيار الوزراء على أساس المعرفة العلمية التخصصيّة والقدرة على وضع الستراتيجيات المطلوبة للخروج من واقع " مُخَرب"، ومن دوامة الأزمات بكل تجلياتها واستخلاص الحلول "العلمية" والعملية لما تطرحه الستراتيجيات المقرة من إشكاليات ومهام وحلول آنية على ضوء ما تمليه خصوصيات الواقع. والحكومة التكنوقراطية لا تتشكل استجابة لرغبة ذاتية او خارج بيئة التطور، ولا بمعزلٍ عن الظروف الموضوعية، وليس من الممكن اعتمادها على آلياتٍ وأدواتٍ تتناقض من حيث الاساس مع نزعتها التحديثية الإرتقائية في أساليب التفكير وفي منهج الحكم وفي مناخ حرية التفكير والاجتهاد والاستفادة من التجربة في الدول المماثلة من حيث الظروف والمهام.
وتحسباً لارتكاب أي خطأ منهجي، لا بد من القبول بخصوصية مفهوم " حكومة التكنوقراط " مطبقاً على واقعنا العراقي، شديد التخلف، عميق التورط في مسارات أدت الى تفكيك الدولة وإعادة بنائها على فضلات نظامٍ استبدادي متجذر مسؤول عن تمزيق نسيج المجتمع وتبديد ثرواته، بالإضافة الى ما جرى من تفريطٍ بالكفاءات الموصوفة، وبالخبرات، وتعريضها للهجرة القسرية، أو للانكفاء تحت ضغط الاساليب المتخلفة الطاردة لها المتعشّشة في كل اركان الدولة المتصدعة ومؤسساتها. وبهذا الفهم علينا الأخذ بالاعتبار أن ما يُراد أن تكون عليه الحكومة المفترضة " التكنوقراطية " لن تنطبق عليها المواصفات " التاريخية " التي انبثقت من رحم التجربة عام ١٩٣٢ في الولايات المتحدة، في ظروف التطور التكنولوجي العاصف الذي جعل من الآليات الحكومية وقادتها في حالة عجزٍ من فهم ذلك التطور والاستجابة لنزعتها " التقدمية، التحديثية " وتمكينها للنفاذ الى مسامات المجتمع والدولة على كل صعيدٍ وميدان، بل والأخذ بما تتطلبه من امكاناتٍ ومالٍ وأبحاثٍ ومناهج تدريسٍ وبيئة علمية متاحة من شأنها اطلاق طاقاتها وتفعيل قوتها الإبداعية الخلاقة والنهوض بها الى مستويات اكثر تطوراً وأبعد مدياتٍ.
وما تفرضه " خصوصيتنا " يندرج في باب السياسة والتكنوقراطي المطلوب لكي يستجيب للمهام الملحة في عملية البناء والتحديث. لكن المُفترض، كمقدمة لذلك، معرفة وتحديد المهام وتراتبيتها من حيث الأهمية والمنطلق.
وأول تلك المهام، الانتقال من الاقتصاد الريعي وحيد الجانب، الى الاقتصاد متعدد المصادر والتنوع. وهذا يفرض استيزار كفاءاتٍ تخصصية مجربة في كيفية إنجاز هذا التحول لإحياء حقول الزراعة والصناعة والسياحة وتطوير القطاع الخاص والمختلط، وتحقيق اكبر قدرٍ من الاكتفاء الذاتي " غذائياً " و " دوائياً "، واعتماد كفاءات قانونية تشريعية لإعادة النظر في القوانين المعرقلة، وتشريع قوانين جديدة " تحفيزية " لخلق بيئة ملائمة لخلق منافسة استثمارية داخلية وخارجية مع تدابير حماية مشجعة. وفي خطٍ متوازٍ متجانس، ضم الكفاءات القادرة على إصلاح السياسة المالية - النقدية وعلى وقف هدر الموارد والفساد المالي والإداري وإعادة هيكلة جهاز الدولة البيروقراطي المتضخم وتخليصه من تقاليد وأساليب الروتين واحتقار الوقت، عبر الركون الى اساليب الادارة في " الحكومة الإلكترونية"..
ويبقى بعد ذلك أن نعرف معاً، وأصحاب القرار أولاً، ان الحكومة التكنوقراطية في الوقت الذي ينبغي ان تكون على أعلى مستوى معرفي في كل ما هو لازم من اختصاص، لا يشترط عليها أن تكون سياسية، وفي ظرفنا المقصود تحييدها قدر الإمكان من التجاذبات الحزبية والطائفية طبعاً..!
قال مواطن ظريف إنّ العديد من الأصدقاء والمعارف متفائلون في ان الحظ قد يمنحهم فرصة اللحاق بحكومة السيد العبادي، خصوصاً وانهم كلهم من ذوي الاختصاص الذين يحتاج إليهم لإصلاح ما تخرب، وليس في العراق ما لم يطاوله التخريب، فأحدهم نجار ماهر والآخر ميكانيك سيارات يصلح للمرور، والثالث لديه "جمبر" ويستطيع ان يشارك بكفاءة في مزاد العملة ويتشارك في الربح الوفير مع وزارة المالية، إضافة إلى العشرات الآخرين ممن صاروا يعرفون لأول مرة انهم من طبقة التكنوقراط المغيّبة عن الدولة ومصالحها..!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 4

  1. محمد سعيد

    في ظل ممارسه سياسه بائسه و سفيه طبقت ميدانيا منذ عام 2003 ولغايه يومنا الحاضر, وادخلت العراق في سرداب مظلم حسب تعبير الصحفي علي حسين , ظلت تحوم في درابين الطائفيه والتزمت الديني واالتعصب الاثني والمناطقي , بعيدا عن مهنيه الادارة وعقلانيه

  2. علي رحماني

    تحية لك استاذ وضعت النقاط على حروف السياسة والماء على حروق قلوبنا ياليتهم يسمعون ....اتمنى ان يختارك وزيرا للثقافة لكي تسير على طريقها الصحيح وترقى الى مؤسسة المدى ....

  3. الشمري فاروق

    العزيز ابو نبيل لتعب نفسك... بعد كل هذي الهوسه والخبصه ...فعلا ستشكل حكومه تكنو.. قراطيه!!! ينطبق عليها المثل القائل.(الزمال زمالنه..يس أجلاله مبدل) والايام بيننا؟؟!!

  4. موسى الخميسي

    انت ادرى بالباب الكاذب لخروج كاذب، فمثل هذا الامر يثير فينا السخرية والتعاطف في هذه اللحظة التي توشك فيها عقولنا ان تنفجر بكاملها. كل ما يطرح بشأن التكنوقراط لايفضي سوى الى الفراغ، وبالذات الى باب كاذب، خطوة الى الامام، خطوتان الى الوراء، دعونا نرجع الى ا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram