يملك المثقف والأديب العراقي أعظم وأخطر الأسلحة على الإطلاق الا وهي الكلمة. نعم ، الكلمة ، ويبدو ان هناك خللاً ما في استعمال الكلمة المناسبة ووضعها في المكان المناسب وفي الوقت المناسب لتفعل فعلها . فلا يمكن بأي حال من الاحوال ورغم هذا العدد الكبير وال
يملك المثقف والأديب العراقي أعظم وأخطر الأسلحة على الإطلاق الا وهي الكلمة. نعم ، الكلمة ، ويبدو ان هناك خللاً ما في استعمال الكلمة المناسبة ووضعها في المكان المناسب وفي الوقت المناسب لتفعل فعلها . فلا يمكن بأي حال من الاحوال ورغم هذا العدد الكبير والكبير جداً من الكتّاب والأدباء والمثقفين المنتمين الى اتحاد الادباء والكتّاب وغير المنتمين الى الاتحاد ان نجد ومع الاسف الشديد ان معدلات الثقافة العامة في مجتمعنا تنخفض الى مستويات متدنية جداً بل وكارثية جداً . فعلى المثقفين العراقيين ان يحددوا اسباب هذا الانحدار ومدى مسؤوليتهم المباشرة او غير المباشرة عنه وكيفية معالجته. فكيف يتعامل المثقف والأديب مع مجتمع تشكل الخرافات والأساطير معظم ثقافته الشعبية ويحد من تطوره عدد كبير من المشعوذين والدجالين ، بل ان تأثير المشعوذين والدجالين على قطاعات واسعة من المجتمع اكثر بكثير من تأثير المثقفين ؟ كيف يتعامل المثقف والاديب مع مجتمع تسود فيه وتؤثر فيه المفاهيم القبلية والعشائرية والمناطقية والذكورية والطروحات المذهبية والطائفية وكثير من المفاهيم المتخلفة الاخرى التي لا تمت بصلة للمفاهيم الحضارية لا من قريب ولا من بعيد بل انها امور قد تجاوزتها الدول المتحضرة قبل قرون ، نعم قبل قرون وليس سنوات وصهرتها في مفهوم حضاري واحد هو مبدأ ألمواطنة . كيف يتعامل المثقف والأديب العراقي مع طروحات قديمه محنطة فكريا وسياسيا واجتماعيا تطرح بنسخ جديدة وبأشكال وألوان زاهية براقة لكن رائحة العفن تفوح منها ؟ كيف يتعامل المثقف والأديب العراقي مع مجتمع يحتاج فيه المربي نفسه الى تربية وتنوير وتحتاج فيه المربية الى تربية وتنوير ؟ كيف يتعامل المثقف والأديب مع من يجتر ويجتر احداثاً وعقائد عفا عليها الزمن ولا يكتفي باجترارها بل يريد ان تجترها اجيالنا الحالية واللاحقة ايضاً ؟ كيف يتعامل المثقف والأديب مع من يفكر وكأنه يعيش في عصور ماضيه سحيقة وليس في عصور الاكتشافات العلمية التي فاقت حدود الخيال ؟ ان المثقف الحقيقي والواعي هو من يعيش الواقع على الارض ويستنبط الطرق والوسائل الكفيله برفع المستوى الثقافي للمواطن العراقي وزيادة ادراكه ووعيه وليس الجلوس في الاعالي ودعوة المجتمع للحاق به . ان المثقف الحقيقي في بلدنا الحبيب هو من يتمكن من الوصول الى كل شرائح المجتمع وايجاد لغة مشتركة بينه وبين من يعيش حواليه تمهيداً لرفعه الى الاعلى . هذه اللغة المشتركة المفقودة هي مسؤولية جميع المثقفين للبحث عن ابجدياتها وهنا تتحدد تماماً مهمة المثقف الحقيقية بمخاطبة الجمهور بلغة بسيطة وسهلة مفهومة ومشوقة , معبرة جذابة ومبدعة عن طريق المسرح والسينما والقصة والمقالة.
والمسلسلات والبرامج الاذاعية والتلفزيونية وكل وسائل الاتصال الاخرى لكي يصل ضوء الكلمة الساطع الى كل زوايا المجتمع المظلمة ويحس بنبضها المجتمع العراقي ولكن مازال بعض المثقفين يعيشون في ابراج عاجية لم يتمكنوا من مغادرتها ابداً لأنهم بصراحة متناهية لم يقدموا الحد الادنى من الثقافة المجتمعية التي يتذوقها الانسان العراقي ويطلبها قبل ان يطلب طعامه قد يكون كلامي قاسياً ولكن حادثة صغيرة جداً ، كبيرة جداً في دلالتها كشفت الواقع الثقافي المأساوي الذي يعيشه المجتمع العراقي . فقد جاء احد المغتربين لزيارة العراق مع اطفاله الذين عاشوا لفترة طويلة في المنفى وفي لندن بالتحديد ، الغريب في الامر ان الاطفال لم يصطحبوا معهم سوى كتبهم المفضلة وقد اصروا على جلبها رغم معارضة الوالدين لأن السفرة قصيرة جداً ولأن السفر لم يكن مباشرة من لندن الى بغداد لأسباب خاصة بالعائلة . والسؤال الآن كم طفلاً عراقياً يتحسس الثقافة ويطلبها ؟ بل كم طالب ثانوية يتحسس الثقافة ويطلبها وكم طالباً جامعياً يتحسس الثقافة ويطلبها ؟ بل كم عدد اعضاء الهيئات التدريسية في المدارس والجامعات الذين يتحسسون الثقافة العراقية ويطلبونها ؟ ان ثقافة البروج العالية ثقافة بلا لون ولا طعم ولا رائحة لذلك لا يتحسسها احد ولا يطلبها احد ولا يفهمها احد وان المثقف في الدول المتحضرة قد تمكن من تقديم ثقافة مجتمعية تحسسها الجميع لطعمها اللذيذ ورائحتها الفواحة ولونها الجميل لذلك فإن لا احد هناك يمكنه الاستغناء عنها ابداً . ان دولا ديمقراطية مدنية حضارية جديدة لا يمكن ان تبنى بدون ثقافة متجذرة في المجتمع ، ثقافة يطلبها الجميع ، ثقافة لكل المستويات . وهذه هي مهمة المثقف الحقيقي في الوقت الحاضر بعيداً عن الحداثة وما بعد الحداثة قريباً من الخرافة وما قبل الخرافة.