يعج الفضاء السياسي العراقي، هذه الايام، بمبادرات تطلقها وتناقشها وتعارضها طبقة حاكمة تتعرض لأقسى امتحان منذ 2003. للمفارقة فإن كل هذا الجدل يجري بمعزل عن الشارع "غير المسيّس".
فمنذ ان فجّر العبادي قنبلته بدعوته البرلمان للمساعدة في اجراء "تعديل جوهري" في تشكيلته الحكومية، والمبادرات تتوالى من هذا الطرف وذاك، حتى بتنا بحاجة الى "مبادرة خاصة" لجمع وتنسيق هذه المبادرات.
بين ليلة وضحاها، أصبح الكل يدعو الى "حكومة التكنوقراط"، ويقدم نفسه مؤيدا للاصلاح الحكومي، وبات يتفنن بهجاء التشكيلات الوزارية السابقة التي شارك فيها، واثرى من مقاولاتها.
لقد مارست الأطراف السياسية، وبكافة أطيافها، خلال الأسبوعين الأخيرين، أقصى ما تعلمته من فنون الجدل الفلسفي، وهي تحاول ابعاد الخطر عنها، او ضمان المقاعد الكافية في التشكيلة المرتقبة من خلال المزايدة على مشروع طرحه رئيس الوزراء نفسه.
تلقف البعض الدعوة لحكومة التكنوقراط، وأصبح يرددها بمعدلات متسارعة تفوق سرعة الضوء، حتى نسي الناس صاحبها الاصلي!
وعلى هامش هذا الجدل، يرصد المراقب إجماعا على ضرورة الإصلاح، لكنه يرصد في الوقت ذاته خلافاً عميقاً وجوهرياً حول مفهوم الإصلاح المطلوب والواجب تطبيقه للخروج من عنق زجاجة الأزمات.
فهناك من يفهم الاصلاح على انه إبعاد الخصوم والمنافسين عن الساحة السياسية، وصنف آخر يرى ان الاصلاح يجب ان يكون جسراً لبناء مجد ذاتي يعزز شرعيته المنقوصة. وهناك فئة أخرى ترى ان الاصلاح يتمثل بالبقاء في الحكومات والتمتع بمغانمها من دون تحمل التبعات السياسية والاجتماعية.
للمفارقة، فإن كل الأطراف السياسية باتت تردد معزوفة الاصلاح وحكومة التكنوقراط، إما بالتنويع عليها، او رفضها، او انتظار ما تسفر عنه الحوارات الخاصة.
فالقوى والزعامات، التي كانت تتحدث، حتى ايام قليلة ماضية، عن كوكتيل من الأزمات، كالوضع المالي للبلد، واشتراطات تحرير المدن، ومستقبل التعايش ما بعد داعش، أصبحت الآن لا تحسن سوى الحديث عن الإصلاح. وكأي فيلسوف بيزنطي، ينشغل الساسة هذه الأيام بالأفكار المجردة عن معانيها، مستمتعين بلذة الجري وراء أفكار تنتمي الى عالم المثال، المحسوس غير الملموس، مبتعدين عن ضنك الحياة اليومية التي تطحن العراقي البسيط.
فبينما يفكر السياسي بالإصلاح وحصته من الإصلاح، يفكر المواطن بالراتب الذي يتأخر، وينقرض شيئاً فشيئاً، وبينما يطرح السياسي رؤيته عن التغيير، ينشغل النازح بكيفية الحصول على خيمة جديدة، او ضمان ترميم ما تبقى من منزله الذي دمرته الحرب.
وبينما ينشغل الزعيم بوضع لمساته المباركة والإلهية على المشروع الإصلاحي، ينشغل أطفال الشهيد وأسرته بتدبر إيجار المنزل، وتوفير لقمة العيش، ولربما الانشغال بتسديد نفقات ايام العزاء على فقيدهم.
في كل النظم "الديمقراطية"، يقرر النظام السياسي العودة الى رأي الشعب، باعتباره مصدرا وحيدا للشرعية، كلما واجه أزمة تمنعه من تلبية احتياجات مواطنيه.
وحده العراق، النظام والدولة، الذي يقرر فيه أباطرته السياسيون العودة الى كتلهم وتوافقاتها، عندما تفشل صفقاتهم التي أبرموها بعد فشل صفقات مشابهة.
لكن ، وما دام الحضور والتأثير السياسيان، في العراق الجديد، يقاسان بمقدار علوّ الموجة الصوتية لهذا الطرف اوذاك، فإن العراقي البسيط بات مضطراً لصمّ أذنيه عن كل هذا الضجيج الذي تحول الى هذيان لا يسمح بمقاربة واقعية ومنطقية لما يعيشه.
في العراق الديمقراطي، بات ارتفاع الصوت، وليس رأي المواطن، معيار الشرعية الوحيد للسياسي والزعيم.
السماء تمطر مبادرات
[post-views]
نشر في: 24 فبراير, 2016: 05:36 م