TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > مبنى التبوغ.. تحولات العمارة العراقية

مبنى التبوغ.. تحولات العمارة العراقية

نشر في: 27 فبراير, 2016: 12:01 ص

اعتبر، شخصياً، عقد الستينات، عقد نضوج عمارة الحداثة في وطننا. فهو عقد، مثلما، كان حافلاً بالمنجزات التصميمية، فهو زاخر، ايضاً، بالتحولات الاسلوبية. انه عقد معماري مهم، وأهميته عالية سواء أكان ذلك على المستوى المحلي او الإقليمي. اذ أبان بشكل واضح قيمة

اعتبر، شخصياً، عقد الستينات، عقد نضوج عمارة الحداثة في وطننا. فهو عقد، مثلما، كان حافلاً بالمنجزات التصميمية، فهو زاخر، ايضاً، بالتحولات الاسلوبية. انه عقد معماري مهم، وأهميته عالية سواء أكان ذلك على المستوى المحلي او الإقليمي. اذ أبان بشكل واضح قيمة المقاربات المعمارية وتعددها وتنوعها التي تعاطى معها معماريو العراق، مثـرين، بالتالي، منجز عمارة بلدهم وعمارة الإقليم الذي ينتمون اليه. في احد التحولات الاسلوبية المؤثرة والمميزة للمعمار "رفعة الجادرجي" (1926)، المعمار العراقي الرائد، الذي يكمل في هذا العام العقد التاسع من عمره المديد (وهذا المقال، واحد من سلسلة مقالات ننوي كتابتها مكرسة لتسعينيته)، في احدى تلك التحولات المتنوعة التي انطوت عليها سيرته المهنية الجادة، نجم عنها ظهور أحد المشاريع التصميمية التي اراها جد لافتة، وجد فطنة، والتي منح وجودها نكهة خاصة للمشهد المعماري المحلي، مضفياً ذلك الوجود صفة "التحول" (او الانعطاف إن شئتم!)، في منتج العمارة العراقية الحداثية. نحن نتحدث، بالطبع، عن "مبنى التبوغ" في شارع الجمهورية (محلة السنك) ببغداد، والذي يعود تاريخ تصميمه وتنفيذه الى سنة 1961، أي الى بدايات ذلك العقد الاستثنائي في مسار العمارة العراقية.  

يبقى الحديث عن لغة عمارة المبنى، مثلما الكلام عن طزاجة مفردات التكوين التصميمي، وجديده من الأمور التي "تغوي" <قارئ> العمارة للتعاطي معها والاشارة اليها. بالطبع سأفعل، انا، ذلك، ايضاً. لكني سوف لن اتحدث عنها الان، سأتناولها لاحقاً في هذا المقال. ما اود ان ابدأ حديثي به عن عمارة هذا المبنى، هو "التوقيت" الذي ظهر فيه: طبيعة "الوقت/ الزمان" الذي انتسب المبنى اليه. لا جدال، ان أحد اهم الاحداث المعمارية، الذي انطوى عليه عقد الستينات عالمياً، هو ضمور الاهتمام، وحتى العزوف عن ما يعرف بمقاربة "الأسلوب الدولي" International Style في العمارة، والذي شاعت قيمه وذائقته، وجمالياته، بصورة واسعة جدا في الخطاب المعماري وفي مشهده! لقد أوصل المعمار "ميس فان دير روّ" (1886- 1969) ذلك المسار التصميمي الى "نهاياته" المنطقية، من حيث بلوغ مفرداته التكوينية حداً عالياً من الحذاقة المهنية، المبهرة والمؤثرة في آن. وقد امست نماذجه التصميمة لفرط براعتها واكتمالها، عصية على التجاوز والتخطي، وبقيت مثالا، فقط، للاحتذاء والاقتباس! ولقد أظهرت "سيغرام بيلدينك" Seagram Building، المبنى النيويوركي الشهير، (1958)، المصمم من قبل "ميس"، قدراً عاليا من الصفاء المعماري المتولد من خلال الانجاز المهني الرفيع لقيم "الأسلوب الدولي"، والمقدرة التصميمية في تأويل مبادئه، من جهة، ومن جهة أخرى، ابانت تلك العمارة الباهرة والماهرة للجميع بلوغ "قمة" ما تيسر من تلك المقاربة الاسلوبية. لكن هذا البلوغ حمل في طياته، ايضاً، بوادر انحدار ذلك الأسلوب ذاته، فاتحاً المجال واسعاً لتبني طروحات معمارية آخرى بديلة ومغايرة لذلك النهج التصميمي الذي ساد لعقود وارتبط ظهوره بالحداثة المعمارية. وهو ما جرى، فعلاً، في حقل الممارسة المعمارية. ثمة تجارب تصميمية عديدة أُنجزت، واكتسبت شرعيتها من ذلك التطور اللافت الذي بلغ التيار الدولي به، نهاياته المفترضة. وهذه التجارب المغايرة، تكرست في الخطاب، وانتشرت في مواقع جغرافية مختلفة، بفضل اعمال معماريين مهمين، سبق وان اثروا المشهد المعماري بنماذج تصميمية بعيدة عن "سطوة" الأسلوب الدولي وهيمنته. بيد انها لم تقِم، وقتذاك، تقييماً كاملاً ومناسباً، يليق بما مثلته من انجاز تصميمي، وما سعت اليه بفتح آفاق معمارية جديدة. ولعل اعمال "لو كوربوزييه" (1887-1965)، "المعلم"، والمعمار الحداثي الأشهر، ولاسيما نتاجه الخمسيني، وكذلك إسهامات "لوي كان" و"الفار آلتو"، واعمال "كنزو تانغا" الياباني وغيرهم اثارت مجدداً انتباه كثر، على خلفية "التغاضي" عن قيم الأسلوب الدولي وغض الطرف عنها. جدير بالذكر، ان "موجة" التقصيات الاسلوبية، لم تقتصر على مناطق جغرافية بعينها، كما لم تتقيد بنتاج معماريين محددين وانما مثلت نزعة تصميمية عارمة وشاملة في المشهد المعماري.
كتب، يوما ما، المعمار رفعة الجادرجي، بانه في مطلع الستينات "... اخذت أدرس ما عملته في مدينة الرشاد، (ضاحية في الشرق من حدود بغداد، اقترح انشاءها عبد الكريم قاسم سنة 1960 لسكن المهمشين. خ. س.) محتذياً حذو كوربوزييه في أسلوب عمله الذي لاحظته في زيارتي له، ومراجعتي الدائبة لأعماله السابقة. ومن مراجعتي لتصاميمي الخاصة بالرشاد تمكنت من تطوير الشكل النحتي الذي تولد هناك، بحيث توصلت الى مفهوم متصور لشكل نحتي مسبق في المخيلة، وذلك قبل إنزال مواقع الوظائف المختلفة، وربط علاقتها بشبكة نفعية" (كتاب: الاخيضر والقصر البلوري، ص. 148). بمعنى آخر، ثمة "ذهنية" جديدة، بدأت تحفر لها موقعا في نشاط المعمار المهني، ستفضي الى وضع أسلوب خاص، بمقدوره ان يتعاطى بنجاح، وبصيغة عابرة للمألوف مع الاشكالية التصميمية. وهذه الذهنية، وهذا التعاطي، سيعول عليهما في تقصي أسلوب تصميمي جديد، ستظهر تأثيراتهما لاحقاً في "مبنى التبوغ" بشارع الجمهورية، وسيدعى المعمار تقصياته تلك بـمفهوم "الجدار العاكس". ومفهوم هذا الجدار يكمن في "استحداث علاقة بين جدارين متوازيين، ولكنهما في موقعين مختلفين وغير متقابلين، فلا يواجه أحدهما الآخر. هكذا تستحدث علاقة هندسية وظيفتها عكس الضياء الى الداخل بطريقة غير مباشرة" (الاخيضر... ص. 152). لكن هذا الجدار سيضحى تالياً، "جداراً ناتئاً"، كما يسميه المعمار، بمقدوره ان يحل إشكاليات بيئية وجمالية ووظيفية. وباستخدام ما يدعوه المعمار بـ "التقطيع"، بالإضافة الى توظيف ما سماه بـ "الجدار الطائر"، فان مفردات التكوين التي استخدمت في تصميم المبنى، امست جاهزة لاجتراح "فورم" معماري مختلف عن سياق ما كان معمولاً به في الأبنية المتعددة الطوابق.
يكمن جديد عمارة "مبنى التبوغ" وإضافتها التصميمية في مسعى المعمار بخلق "جدارين" في المبنى المصمم: خارجي وداخلي. الأول، مهمته حماية المبنى من اشعة الشمس الحارة والضياء الساطع المبهر، والثاني يؤشر حدود الفضاءات الوظيفية ويعين مواقعها. الجدار الأول، هو المرئي من قبل متلقي العمارة، ولهذا يُحمّل مهمة إضافية بجعل عناصر الواجهة تعمل جمالياً. وبالتالي، فنحن، هنا، إزاء مفهوم جديد من مهام التنطيق المفرداتي للعمارة المجترحة، مفهوم، يذكرنا، بأطروحة "لوي كان": <مبنى داخل مبنى>، التي اشتغل عليها كثيرا، واظهرها بوضوح في تصميم مبنى "القنصلية الامريكية" في لاوندا (انغولا) (1959)، والتي لم تنفذ. بيد ان تصاميمها نشرت في الميديا المهنية على نطاق واسع حينذاك، كما سيعمل "لوي كان" عليها كثيرا، ايضاً، في مبناه ذائع الصيت "مبنى البرلمان بدكا في بنغلاديش (1962-1974). لكن ما قام به الجادرجي في "مبنى التبوغ"، يتجاوز "تناصية" قيم ومبادئ تلك الاطروحة، مضفياً عليها تأثيرات "التقطيع" التي تظهر بوضوح في واجهة المبنى مانحة إياه قيمة أستيتقية عالية!
في مبنى التبوغ، تنشأ جماليات العمارة الناجزة، ايضاً، من تأثيرات "تكتونية" Tectonic مميزة تترشح من استخدام مادتين انشائيتين أساسيتين، هما: الخرسانة والآجر. وهذه "التكتونية" التي تخلق جمالياتها المتفردة من خصوصية توظيف خواص هاتين المادتين، بالإضافة الى اعتمادها على التضاد الحاصل ما بين "الجسور" الخرسانية الممتدة افقياً، مع شاقولية فتحات النوافذ المؤطرة بإطارات خرسانية مع قطع من الخشب. كما يتكل المعمار في زيادة الإحساس بالقيمة الجمالية لمبناه، على ما يسميه أسلوب "التقطيع" المشغول وفق منظومة تناسبية، فضلا عن فعالية تأثير السطوح المرتدة والناتئة. وتضفي التفاصيل المدروسة بعناية مع استخدام الأشرطة الملونة المعمولة من الطابوق الخزفي المحلي، بالإضافة الى تشغيل ماهر لتأثيرات عنصر الضوء والظل، الناجم عن مفعول القرارات التصميمية، يضفي كل ذلك ابعادا جمالية، ترفع من أهمية العمارة المجترحة، وتدلل على حداثتها وطزاجة هيئتها العامة في الوقت نفسه. واجد، شخصياً، في عمارة "مبنى التبوغ"، محاولة جادة ومبدعة، اغنت بظهورها المميز المنتج المعماري المحلي الحداثي، وأبانت احد تحولاته الاسلوبية المؤثرة، ضمن تنويعات مقاربات العقد الستيني!
والمعمار رفعة كامل الجادرجي، الذي ستحتفل الاوساط المهنية والثقافية في "تسعينيته" في هذا العام 2016 (هو المولود في 6/12/ 1926 ببغداد)، أنهى تعليمه المعماري من مدرسة "هامر سميث للفنون والاعمال" (1946-52) بلندن / المملكة المتحدة، عاد الى العراق، واشترك مع عبد الله إحسان كامل وإحسان شيرزاد، في تأسيس مكتب "الاستشاري العراقي" (1953)، وانضم لهم، بعد ذاك معماريون آخرون. قدر لغالبية مشاريع المكتب ان تمثل بعمارتها المميزة ولغتها التصميمية الحداثية، صفحات مهمة وناصعة في سجل المنجز المعماري العراقي. ومن ضمن تلك المشاريع: دارة كتخدا (1959) في العلوية، نصب الجندي المجهول  في ساحة الفردوس (1959)، كلية الطب البيطري (1965) في ابي غريب، بغداد، دارة يعسوب رفيق (1965)، في المنصور ببغداد، مبنى التأمين (1966) في الموصل، مبنى اتحاد الصناعات العراقي عند ساحة الخلاني ببغداد (1966)، مشروع مسجد لندن (1969)، لندن /المملكة المتحدة (لم ينفذ)، مصرف الرافدين (1969)، في المنصور ببغداد، مبنى الاتصالات (1971) <بالاشتراك مع هنري زفوبودا>، في السنك ببغداد، دارة هديب الحاج حمود (1972) في المنصور ببغداد، بناية مجلس الوزراء (1975)، في كرادة مريم ببغداد، وغير ذلك من التصاميم المميزة، ذات الوظائف المتنوعة. أصدر الجادرجي عدة كتب تعاطت مع الشأن المعماري والفني والأنثروبولوجي مثل: شارع طه وهامر سميث (1985)، صورة أب (1985)، مفاهيم وتأثيرات: نحو اقلمة العمارة الدولية (1986) <باللغة الانكليزية>، الاخيضر والقصر البلوري (1991)، حوار في بنيوية الفن والعمارة (1995)، ومقام الجلوس في بيت عارف آغا (2001)، جدار بين ظلمتين (2003) <بالاشتراك مع زوجته بلقيس شرارة>، في سببية وجدلية العمارة (2006)؛ الذي نال عنه جائزة زايد للكتاب (2008)، وقد أصدر اخيرا (2014) كتابا ضخما بعنوان "دور المعمار في حضارة الانسان". سبق وان حاز الجادرجي على جائزة الرئيس لمؤسسة أغا خان (1986). مقيم في بريطانيا منذ الثمانينات، ويتنقل في اقامته بين لندن وبيروت.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

امريكا تستعد لاخلاء نحو 153 ألف شخص في لوس أنجلوس جراء الحرائق

التعادل ينهي "ديربي" القوة الجوية والطلبة

القضاء ينقذ البرلمان من "الحرج": تمديد مجلس المفوضين يجنّب العراق الدخول بأزمة سياسية

الفيفا يعاقب اتحاد الكرة التونسي

الغارديان تسلط الضوء على المقابر الجماعية: مليون رفات في العراق

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram