الموظف الذي وضع الشاي أمامي في مكتب أستاذ "حسني سليمان"، صاحب دار شرقيات وسط القاهرة، كان قد سمعني أعرب عن رغبتي بالذهاب إلى "سور الأزبكية" بحثا عن مصادر أطروحتي في الدكتوراه.. وكنت قد اخطأت بالذهاب إلى القاهرة، معقل القوميين العرب، لأبحث هناك عن نصو
الموظف الذي وضع الشاي أمامي في مكتب أستاذ "حسني سليمان"، صاحب دار شرقيات وسط القاهرة، كان قد سمعني أعرب عن رغبتي بالذهاب إلى "سور الأزبكية" بحثا عن مصادر أطروحتي في الدكتوراه.. وكنت قد اخطأت بالذهاب إلى القاهرة، معقل القوميين العرب، لأبحث هناك عن نصوص رواية المنفى العراقية.. كانت تلك المرة الأولى التي أغادر فيها العراق، وكانت رغبتي في زيارة القاهرة بعيد سقوط الدكتاتور جارفة، وتغلبت على المعقول عندي، ان اذهب، مثلا، إلى دمشق أو بيروت، بل وحتى الى عدن عاصمة الاشتراكيين اليمانيين التي ذهب إليها الكتاب والمثقفون العراقيون الهاربون من سلطة الديكتاتور نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات.
كانت دمشق قد شهدت تأسيس المشاريع الرئيسة للمثقفين العراقيين، دار بابل مثلا، ثم دار المدى، وفي بيروت تجمع خمسمئة مثقف عراقي من مختلف الاختصاصات استجابة لنداء الشاعر سعدي يوسف بقصد تأسيس تجمع ثقافي معارض، وكان ما كان من أمر مجلة "البديل" التي أصدرتها رابطة الكتاب العراقيين الديمقراطيين.. وفي بيروت كذلك كانت صحف المقاومة الفلسطينية التي نشط فيها الكتاب المعنيون. كل هذا تركته لأذهب إلى القاهرة برا، في رحلة خيالية استمرت أكثر من اثنتين وسبعين ساعة دون نوم، بدءا من بغداد، وصولا الى عمان، ثم إلى العقبة ومنها الى "نويبع" على البحر الأحمر، لنركب، من هناك، حافلة ستشق بنا صحراء سيناء القاحلة الباردة في عز الصيف، وصولا الى قاهرة المعز.. بعد يومين وجدت نفسي في ضيافة أستاذ "حسني سليمان" الذي لم يختلف الفضول عنده عن فضول الناس هناك لمعرفة حقيقة ما يحدث في العراق المحتل حديثا... كنت قد وصلت في آب من عام 2003، ولم تكن قد مضت على الاحتلال الأمريكي للعراق سوى أربعة أشهر. جلست استمع للأستاذ "حسني" في مكتبه، حتى قاطعنا ذلك الموظف محذرا إياي من مغبة حمل نقود كثيرة عندما اذهب إلى سور الأزبكية، قال بحرص بالغ: خذ فقط أجرة الطريق، فلعلهم يفتعلون شجارا ويدخلونك وسطهم.. قاطعه "الأستاذ": انه، يقصدني، لا شان له بـ"السراق"، فلا تتزيد بالكلام! ولم أكن قد سمعت بـ"الأزبكية" كسوق رئيس للكتب في مصر. كان احدهم، في مقهى النت، قد نصحني ان اذهب إليه بعد ان عرف مقصدي من زيارة القاهرة. وكان علي ان آخذ بالنصيحتين، ان اذهب إلى هناك، وان احمل القليل من المال وأنا ادخل الى "الأزبكية". في الممر المؤدي الى ساحة "الأزبكية"، كان ثمة بائع يفترش الأرض ويضع أمامه أعدادا قديمة من مجلة "ابداع" المصرية، سألته، وانا اقلب أعداد المجلة، ان كنت أنا الان في "سور الأزبكية"، هز رأسه وقال، وهو يضع النقود التي أعطيتها له ثمنا لاعداد أعجبتني من المجلة: في نهاية الممر ستكون في قلب الأزبكية. شكرته وتركته فيما كانت يصارع رغبته بسؤالي عن أصلي وفصلي؛ ربما لأني لم أكن قد أتقنت "المصرية" كما يجب هربا من أسئلة متكررة تسمعها في الشارع، بالجامعة، في الباص، وأنت تشرب الشاي في مقهى وسط البلد، او في "خان الخليلي". احدهم كان يقف بلباس الشرطة امام تمثال "طلعت حرب" أصر ان يشرب الشاي معي، قال انه أمامه ربع ساعة وينتهي واجبه، وانتظرته أمام دار "الشروق" المقابلة لمكتبة "مدبولي"، وكان علي لحظتها ان اسمع السؤال ذاته: ماذا يفعل الأمريكان بالعراق الان؟ ولكن قبلها كان الجميع يسأل ان كان صدام حاكما جائرا بالفعل! في دار "المعارف" الشهيرة بشارع عبد الخالق ثروت قال احد العاملين هناك، انه ماكان علي ان آتي إلى هنا، سألته: ولكن لماذا! قال: كان عليك ان تفخخ نفسك وترميها تحت الدبابة الأمريكية! هذه الأسئلة، بل هذا العجب اختصرته النظرة البلهاء المصحوبة بصيحة التعجب التي نسمعها في الافلام المصرية: ايه.. جوابا عن سؤالي وأنا أقف أمام إحدى أكشاك الأزبكية: هل عندك إصدارات دار "المنفى". كررت الاسم مرتين او ثلاث مع التشديد على مكان هذه الدار، حتى قال: ياسيدي إصدارات الإسكندرية لا تصلنا، فكيف تصل إصدارات السويد! وأشار بيده إلى الكتب في كشكه، ثم إلى الأكشاك الأخرى: هذا ما عندنا، وقال ساخرا: لماذا تذهبون الى السويد، اقرا كتب طه حسين أو العقاد!؟ درت مع إشارته لاتاكد مما رأيت أول دخولي للأزبكية. كنت، لحظتها، أقف وسط ساحة مستطيلة الشكل تسيجها أكشاك صغيرة، وفي وسطها ثمة أكشاك أخرى انتظمت منتصف الساحة. درت حول الساحة، ولم يكن في داخل الأكشاك سوى كتب قديمة، بعضها يعود إلى الستينات وأعداد كثيرة من مجلة "العربي" الكويتية ومجلات مصرية قديمة، ملونة او بالأسود والأبيض. وتكاد الأكشاك تبيع كتبا متشابهة؛ فلا يخلو كشك من كتب طه حسين والعقاد ويوسف السباعي، وبعضها بطبعاتها الأولى. درت حول نفسي لأقول، ربما لنفسي ذاتها، وان كان صاحب الكشك القريب قد سمعني: أهذا كل شيء؟! رد البائع: اذهب إلى الأوبرا وهناك تجد الكتب الجديدة، هنا تباع الكتب المستعملة القديمة! وكان يقصد إصدارات المجلس الأعلى للثقافة – المشروع القومي للترجمة. تأملت وجه البائع جيدا، ثم ذهبت عيني إلى عمق كشكه الذي لا يزيد عن متر بمتر، وقلت له: اليوم جمعة وكان علي ان اذهب إلى المتنبي! رد البائع: لا توجد، هنا، طبعات جيدة من ديوان المتنبي، تجدها في مكتبة روز اليوسف او مكتبة "ديوان" في الزمالك، هناك تجد الطبعات الجديدة الفاخرة.. وأدار نظره صوب الزاوية البعيدة من ساحة الأزبكية.