TOP

جريدة المدى > عام > كتابات فـي النسوية ( 8 )

كتابات فـي النسوية ( 8 )

نشر في: 6 مارس, 2016: 12:01 ص

عن الأنثوية الحذرة أو بشائر الحضور
قراءة في شعر بلقيس خالد
- 2 -لتبني "الأنثوية"، حركة مناضلة، سِمَة من سمات الالتزام الايديولوجي. هذا إذا كان عملاً قصدياً أو إيماناً يوجب التزامات أخلاقية. وهذا ما يتضح في كتابات "الأنثويات في اوروبا اليوم وفي امري

عن الأنثوية الحذرة أو بشائر الحضور

قراءة في شعر بلقيس خالد

- 2 -

لتبني "الأنثوية"، حركة مناضلة، سِمَة من سمات الالتزام الايديولوجي. هذا إذا كان عملاً قصدياً أو إيماناً يوجب التزامات أخلاقية. وهذا ما يتضح في كتابات "الأنثويات في اوروبا اليوم وفي امريكا وبدأت تتصاعد الحدة في البرازيل والتشيللي .. بعض كاتباتنا يؤمنَّ بضرورة النضال من اجل الحقوق وتغيير الأنظمة ، لكن ذلك الإيمان لا يبعدهن عن الإبداع الذاتي الحر. هذه نقطة مشتركة. البعد الاجتماعي هو الفارق بينهن. وسواء أكان العمل الادبي شعراً أم رواية أم تنظيراً، يقتصر الخطاب عندنا على دائرة الوسط الثقافي.
وهكذا هي شاعرتنا، بلقيس خالد، تنأى تماما عن هذا التبنّي حتى تبدو تكتب شعراً لترضي نفسها وإذا زاد المدى، فللأدباء أو المتأدبين حولها.
الملاحظة الثانية، انها احياناً تنسى انها تكتب شعراً أو هي تتعجّل الكتابة، فتتسلّل نثرية أو صنعة لسياقات اشعارها. هذا المتسلل، الدخيل، غالباً ما يكون طارئاً على طبيعتها الشعرية ويكسر الشعاع الضعيف للأنثوية، موضوع اهتمامنا. هي مساوئ التقليد او هي الرغبة الجامحة بالتحديث. التحديث عادةً يسبقهُ تحديث ثقافي وفكري. وبالنسبة لنا، التحديث في الفكر الأنثوي يؤجج النزوع الأنثوي مما تتوهج فيه الحركة النسوية في العالم اليوم. وإلا فابقي سيدتي بسيطة صافية ودعي روحَكِ على رسلها. التحديث ستضيفه الثقافة ولا تدرين. الثقافة تعمل بصمت، هي مثل "رحى الله تطحن ببطء ولكنها تطحن ناعماً ناعماً"، كما يقول المثل الالماني.  الطبيعة الشعرية هي التي ستحوّل المواجهات، سارة أو مؤسفة، إلى هاجس شعري. الوعي هو الدينمو السرّي وراء السكينة. نعم هذا ما يفعله الذكور أيضاً. لكن ليس دائماً. يفعله المتأملون منهم لا الذين لهم القوة على الصد او الصراع مع الخشن او المتوحش. الذكورية تختلف في الانفعال المضاد. تقول الناقدات الأنثويات ان عدوانيتهم ماديّة وسطحية بالنسبة لعمق الاستياء الأنثوي، للأخير مدى تأريخي!
بالنسبة لشاعرتنا، النصوص التي أمامي تحوّل سلوكَ الخارج الفظ او الفعلَ السيئ شبهَ الخرافي احياناً، الى عِظَة أو حكمة، الى نوع من العزاء الأنثوي. يقول جوتيه في قصيدة له:
لون العبادة أبيض
كذا لون الصباح
هذه الجملة رهبانية لأنه ما يزال في اللحظة الشعرية بعيداً عن رؤية السوء أو الفزع. هو في التأمل، في الهدوء الآمن. أرى سكينة مثل هذه، قريبة منها، تليق بشعر امرأة متنحية تحاول أن تظل على مبعدة مما في الصخب. ومثل هذه، قريبة منها طبيعة بلقيس الشعرية. هي هادئة، مسالمة  تعي وتتألم. إذاً، المفيد ما ينسجم وطبيعة كهذه، أن يكون "لون العبادة ابيض.."، هكذا في الشعر، تجتاز الزحام برأس خفيض، لتعود من بعد، تأسى أو تلملم ما تبعثر .. في الاصطناع يدخل المعقّد الذي أشرنا اليه. وهنا تحدث المفارقة التي لا تنفع. فلا تدعها تتقدم ولا تسلم على ما كان.
ثمة شَبَهٌ، شبه مكسور، في شعر مجايلتها نجاة عبد الله. الا اننا نجد هناك قصائد اكثر مما نجده في كتب بلقيس الثلاثة. المقطوعات، الخواطر الشعرية هي جلّ كتابات بلقيس وعلى عكس المتوقع، نجد في ديوانها الاول "امرأة من رمل" ان عدد القصائد هو الاكبر . هناك تقدم أكثر في التقنية، على بساطتها .. وحيادية بلقيس الايجابية تقابلها حيادية سلبية لدى نجاة. نجاة تقدم تنازلات كثيرة في المواجهة الأنثوية للعالم. هي مستَلَبة الى درجة فقدان الجندر. هي تبدو منسجمة مع من حولها الى حد الـ "يونيسكس" . هي تكتب مثل الشباب حولها. تريد ان تنسى أو تتناسى أحزانها ومنغّصاتها الأنثوية وما تواجهه نسويتها اللاحماية لها!
لكن هذه سلبية لا ترتضيها الحركة الأنثوية المتحدية في عالم اليوم. الشاعرة، نجاتنا، لطبيعتها أو لظروف عيشها، اضطرت لهذه واعتادت عليها. ها أنا أوقظها بقسوة قليلاً، فهي مثقفة، شاعرة وهناك حركة أنثوية عظيمة في العالم فعليها الانتباه!
تختلف عنها بلقيس قليلاً، بأن تركت مسافة، خطاً بينها وبين المقاومة او الاحتجاج القوي، مثل تلك التي بينها وبين الخسارة. هي مُشاهِدةُ مسرح، لا تعنيها الشخوص، لكنها تعود بأساهم وأوجاعهم. يعنيها ما يحدث لا ما ترى. وسلوكها على قدر السلامة والشعر. معنى الذات، يتخلل هذا، من خلاله أيضاً يحضر "الأنثوي". فنحن هنا بإزاء "أنثوية الجوهر". هذه هي حدود التعبير عند بلقيس وهذه "طبيعته". السياقات الطارئة لا يُطمأن إليها، لا شعرياً ولا "أنثوياً" ، اظننا أكدنا على ذلك من قبل .. بقي ان نعرف ان السبب ليس أدبياً حسب، السبب الاوسع تأثيراً، انها تعيش في مدينة رجال مأزومين جنسياً وسياسياً، فالتجأت إلى استيداع النفس ما ترى وما تشهد لتشير من بَعْدُ الى ما ادّخرته، في هذا السطر أو ذاك.
ومن هنا الأمل! فهي بسبب من تراكم ما استودعته ومن تضاعف التجارب، ستنتهي الى كتابة قصيدة. بضعة الأسطر، رباعية او سواها، لن تكون مستقبلاً كافية لتراجيديا الحياة، وحياة الأنثى الشرقية بما فيها من احداث، إيذاء ولا اقول مباهج، وإن كانت المباهج بعضاً رئيساً من مكونات الحياة الأنثوية وشعارات الحركة العالمية، كما هي تقع ضمن جلّ كتاباتهن.
كان سبب ترددي في الكتابة عن شعرها، وقد كتبت عن زميلات لها، هو غياب الخط الأنثوي "النضالي" فيه، وهو ما يهمني. كان هذا الموضوع شبه غائب، خامد الصوت جداً. لكنه بدأ بتصاعد ويتضح في كتاباتها الاخيرة. كانت موضوعاتها هي تلك التي لجيلها من الشواعر والشعراء: أسف. حرمان. استلاب. رغبة مقموعة، تطلّع منكسر.. لكن نغمة خاصة بدأت تتقدم لتعلو. نبقى بانتظار. حتى الآن ليس لها صوت خاص لكن لها سلوكا شعريا، أنثويَّ الجوهر وبدأت تتزايد النصوص التي لها سمات أنثوية.
 أنا خلف القضبان
لا أفهم لغة الحرية
و
يذوب الطين منتشياً
تحت فيض القبلات
انا هنا اعتمد القراءات، غير متأكد من شخصية الشاعرة في المنزل في العمل ومدى حضور الاحتجاج الأنثوي هناك ومن بعد حضوره في الكتابة. يبدو لي حتى الان انها تعتمد الفعل الثقافي لا المجتمعي والاّ لزادت واقعيته في النصوص. واضح ان أحزانها النسوية ضمن الحزن البشري العام. هي حتى الآن تتحدث بالمشترك من الهموم، بالأنثوي المسالم او الخجول. مثل من يمضي الى عمله في منطقة الحياد. هي حتى الان ،وبعد ثلاث مجاميع شعرية، شديدة الكتمان على مشاعرها الأنثوية كما تتكتم على جريمة. ولكنها تبث احتجاجات واضحة لمن يقرأ جيداً. هذا نمط من الأنثوية الناشئة. مرحلة انتقالية قبل الكشف والمواجهة، قبل الالتقاء بصفوف المناضلات النسويات في العالم. وهذا ما اتمناه، ما ادعو اليه، ما اكتب بسببه. انا أنثر بذوراً للمستقبل!
شاعرتنا ما تزال غير واثقة بالوعود الأنثوية. الضعف النسوي في محيطها، الذي يتكشف في المحنة او في المفترقات الصعبة، هو ما يصدها بألم. ليس هناك أكثر من النساء بكاءً في الارض! اغلب الشاعرات عندنا يكتبن لحظة انكسار المنع. كتاباتهن "الأنثوية" من خلال فجوات المرور الآمنة:
حتى أحافظ على صفــاء يومـــي
أغلق الأبواب بوجه ريحك الترابية
هذا في بلادنا العربية كلها إلا استثناءات مغربية ولبنانية وبضعٌ أخريات هنا وهناك.
غالباً ما يتوقّفن حائرات أمام فداحة الخسارة، غير واثقات بأن الحركات النسوية ستغيّر أوضاع المرأة، ستمنحها ما تفتقد وتمكنّها من حرياتها. ثمة ادراك مضمَر ان هذا المجتمع يحتاج، ربما، لقرن آخر كي يستطيع ان يفهم وان يستجيب، بل ويتبنّى المطالب النسوية ويشارك في تحقيقها بوصفها حقوقاً إنسانية واستعادة لكرامة بشرية وتصحيح أنظمة خطأ.
ولهذا السبب، عدم الثقة هذه، بقي الشعر النسوي "الأنثوي للحركة"، عندهن بثّاً هادئاً لمحطة سرّية لم يتمكن منها المنع! وحتى الآن لم تدرك وتنفّذ عملياً، لا بلقيس ولا عديدات سواها، ان "الكتابة الأنثوية تجهد لأن تصنع دعوات للحقيقة، لأن تغيّر الخطاباتُ التقاليدَ الثابتة للكتابة وتخرج من الحدود المرسومة للمعنى المتوارث.." هذا ما ورد في "الممارسة الأنثوية وما بعد البنيوية"
Feminist Practice & Past Structural Theory by Chris Weeden P.131
المنظّرات الأنثويات يصرّحن بأن هذا ممكن "ممكن أن يغيّرن اتجاه الخطاب لتأسيس حقائق جديدة "تتلاءم" واهتماماتهن. وهذه الستراتيجية، ستكون بمرور الزمن مفيدة سياسياً في التغيير. هذا المضمون أكثر وضوحاً في الأنثوية اللبرالية التي تدعو للمساواة الكاملة في العلاقات الاجتماعية والحريات الشخصية.
وهنا اسأل: هل يمكن لشعر يأسى ولكن بحيادية ويتألم لكن يتحاشى التقاطع، أيمكن لشعر كهذا ان يغير حقائق ثابتة مثل حقائقنا الاجتماعية؟
على خلاف المتوقّع، أقول: شعرٌ مثل هذا الشعر، ومثالنا شعر البصرية بلقيس، يمكنه أن يبثّ الوجع الإنساني والانتباهات الروحية والرِفْعة عن الهمجية واللافهم. وباتساعه وحضوره، هو وما يماثله من شعر أُخريات ، يمكن ان يهيئ أجواءً إنسانية نظيفة، يمكن ان يكون موسيقى ناعمة ومؤثرة تمهد لأحاسيس نبيلة وسلوك ترتضيه الحضارة. ولا يعدِم من بعد دوراً في التغيير.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram