TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حب الإنسان.. لا الفكرة

حب الإنسان.. لا الفكرة

نشر في: 13 مارس, 2016: 09:01 م

في كتاب ستيفان زفايج عن الكاتب الفرنسي رومان رولان، يتحدث المؤلف في الفصل الخامس عن رولان وهو في الثانية والعشرين من العمر، مكتنزاً لا بحب المعرفة، والتعلق بالشعر والموسيقى فقط، بل بدوار الحيرة الروحية التي تصور له النفس بين كفتي ميزان دائماً: بين الحياة وطلاقتها والنظام، بين الحرية والانضباط، بين التوق الرسالي والامتثال. هذه الوقفة المترددة في مفترق الطرق.
في تلك المرحلة كان رولان بالغ الشغف بالموسيقى وبيتهوفن بالذات، وبالشعر وبشيكسبير بالذات. ثم اكتشف تولستوي فتعلق به تعلق المريد بالشيخ. حينها، ولكي يُعمق قدرُ المبدع حيرةَ الشاب الروحية، كان تولستوي قد أصدر كُتيباً بعنوان "ما الذي يمكن فعله؟" يتضمن لائحة اتهامٍ شرسة للفن، واحتقارٍ حطم كل ما هو عزيزٌ على قلب رولان. فبيتهوفن الذي كان محرابَ صلاةِ الشاب الفرنسي، يراه تولستوي، والموسيقى عموماً، مثيراً للافتتان والشهوانية. وكان يرى شيكسبير شاعراً من الدرجة الرابعة. لقد كنس الفنَّ الحديث بأسره مثل قش من قاعة الدرس. قدسُ أقداسِ القلب الفتي أُلقي في الظلمة. "وبالرغم من أحداً من مثقفي المرحلة لم يأخذ رأيَ تولستوي مأخذاً جدياً، إلا أنه اقتحم ضمائر الشبان مثل إعصار."
الضرورةُ المريرة اضطرت هؤلاء الشبان إلى الاختيار بين بيتهوفن وتولستوي المقدس في قلوبهم. يقول رولان: "الخير، الصدق، الاستقامة المطلقة التي يتمتع بها هذا الرجل جعلت منه بالنسبة لي دليلاً معصوماً عن الفوضى الأخلاقية السائدة.... ولكن حبَّ الفن، في اللحظة ذاتها، كان يصحبني منذ الطفولة. الموسيقى، بخاصة، كانت غذائي اليومي؛ أنا لا أبالغ في القول بأن الموسيقى كانت بالنسبة لي غذاءً ضرورياً للحياة كالخبز...
في حالته الملتبسة هذه، عزم الطالب على حلٍّ مدهش. جلس في أحد الأيام في عِلّية البيت، وكتب رسالةً إلى تولستوي، يصف فيها الشكوك التي أوقعت ضميره بالحيرة.
أسابيع مضت، نسي فيها رولان ساعة اندفاعه تلك. ولكن في أحد الأماسي، وهو عائد إلى غرفته، وجد على الطاولة علبةً صغيرة تحتوي على جواب تولستوي. ثمانيةٌ وثلاثون صفحة مكتوبة باللغة الفرنسية، من كاتب أكبر من حجم الحياة، إلى شاب مغمور. ولكن أحسب أن تولستوي رأى في مصطرع هذا الشاب النقي ما يجعله بحجم الحياة أو أكبر. تعود الرسالة إلى 14 اكتوبر 1887، أعلن في مطلعها قائلاً:
"تلقيتُ رسالتكم الأولى. لقد مست قلبي، وبللت عيني بالدموع." ومضى تولستوي في شرح أفكاره عن الفن. فهو يرى أن ما له قيمة هو الذي يوصل الناس ببعض؛ والفنان الوحيد الذي يستحق هذه التسمية هو الذي يضحي من أجل ما يؤمن به. الشرط المسبق لكل نداء حقيقي يجب أن يكون، لا حب الفن، بل حب الكائن الانساني. هؤلاء الذين تمتلئ  قلوبُهم بمثل هذا الحب هم فقط الذين يمكن أن  يكونوا قادرين، كفنانين، على إنجاز ما يستحق الانجاز.
لقد علمته ذكرى استجابة تولستوي لحاجته، ذكرى المعونة التي تلقاها من مفكر أجنبي، علمته أن يتعامل مع كل أزمة ضمير باعتبارها شيئاً مقدساً، وأن ينظر إلى تقديم المعونة كواجب أخلاقي أساسي للفنان.
من رسالة تولستوي انطلق أكثر من رولان واحد. من الآن فصاعداً، صار الأدب بالنسبة له مقدساً، ذاك الذي أنجزه وفاءً لسيده. الساعة التي كتب تولستوي فيها إلى مراسله غير المعروف إنما أنتجت آلاف الرسال بعثها رولاند إلى أناس مجهولين في كل العالم. كمية لا حصر لها من البذور تحلق عبر العالم، بذور نشأت من هذه الحبة المفردة من عمل الجميل.
إن ثمرة عبقرية تولستوي، وثمرة  لوبات روح وعقل رولان واحدة، مؤداها في صيغة بالغة البساطة تقول بضرورة الانتصار للإنسان، لا للفكرة. " الشرط المسبق لكل نداء حقيقي يجب أن يكون، لا في حب الفن، بل في حب الكائن الانساني."

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الداخلية وقرارات قرقوشية !!

العمودالثامن: في محبة فيروز

الفساد ظاهرة طبيعية أم بسبب أزمة منظومة الحكم؟

مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

العمودالثامن: تسريبات حلال .. تسريبات حرام !!

 علي حسين لا احد في بلاد الرافدين يعرف لماذا تُصرف اموال طائلة على جيوش الكترونية هدفها الأول والأخير اشعال الحرائق .. ولا أحد بالتأكيد يعرف متى تنتهي حقبة اللاعبين على الحبال في فضاء...
علي حسين

باليت المدى: جوهرة بلفدير

 ستار كاووش رغمَ أن تذاكر الدخول الى متحف بلفدير قد نفدت لهذا اليوم، لكن مازال هناك صف طويل جداً وقف فيه الناس منتظرين شراء التذاكر، وبعد أن إستفسرتُ عن ذلك، عرفتُ بأن هؤلاء...
ستار كاووش

التعداد السكاني العام في العراق: تعزيز الوعي والتذكير بالمسؤولية الاجتماعية

عبد المجيد صلاح داود التعداد السكاني مسؤولية اجتماعية ينبغي إبداء الاهتمام به وتشجيع كافة المؤسسات الاجتماعية للإسهام في إنجاح هذا المشروع المهم, إذ لا تنمية من دون تعداد سكاني؛يُقبل العراق بعد ايام قليلة على...
عبد المجيد صلاح داود

العلاقات الدولية بين العراق والاتحاد الأوروبي مابين (2003-2025)

بيير جان لويزارد* ترجمة: عدوية الهلالي بعد ثمان سنوات من الحرب ضد جمهورية إيران الإسلامية (1980-1988)، وجد العراق نفسه مفلساً مالياً ومثقلاً بالديون لأجيال عديدة.وكان هناك آنذاك تقارب بين طموحات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي....
بيير جان لويزارد
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram