عندما يفارق التنظير الواقع يصبح ضرباً من ضروب الجدل البيزنطي الذي يدور حول المشكلة من دون أن ينجح بالولوج الى جوهرها تمهيداً لتفكيكها ومعالجتها.
هذه طبيعة الجدل الدائر في العراق منذ آب الماضي، حيث أطلق رئيس الوزراء حيدر العبادي حزم إصلاحاته التي فاجأت حلفاءه وخصومه على حدٍ سواء. منذ ذلك الوقت دخل "الإصلاح" الى القاموس السياسي العراقي، كمفهوم عائم، غائم، يفتقر الى سياق سوسيوثقافي، الامر الذي حوله الى أداة اخرى في صراع القوة بين الاحزاب والمكونات.
لم يكن الإصلاح، الذي يتداوله الساسة والزعماء مؤخرا، سوى خندق آخر يتمترس فيه الفرقاء لحماية أنفسهم ومواصلة إدارة وتوسيع نفوذهم. وهو بهذا المعنى مجرد ثرثرة سياسية لا مضمون لها، يراد منها تقضية الوقت والقفز على الاستحقاقات الاقتصادية والأمنية بالدرجة الأساس.ولن يُخطئ المراقب ملاحظة تباين وتهافت مشاريع الإصلاح التي تطرحها أطراف سياسية، مقارنة بالإصلاح الذي يريده ويطالب به العراقيون باختلاف انحداراتهم. فالنوع الاول من الإصلاح يدور في دائرة السلطة ومشتقاتها، والثاني يريد ترتيب الأولويات على اساس احتياجاته الفعلية، واعادة ترسيم خارطة التوازنات السياسية وتوزيع السلطة من ضمن ذلك.
ومهما ألحّ أو بالغ طرف سياسي في رفع شعار الإصلاح وتبنيه كخيار وجودي أحيانا، فلا يمكن تصور ذلك او تسويقه على اساس انه خيار شعبي - اجتماعي من شأنه ان يشكل التحول السوسيوثقافي الذي يحتاجه أي مشروغ تغييري. ببساطة لأن ضرورات التغيير في السياق الاجتماعي، تتباين كليا عنها في السياق السياسي، ومن يتبنى الاول فإنه بالضرورة يشكك بشرعية الثاني، ويتهم أدواته في الوصول الى السلطة واستمراره فيها.
وهنا يكمن مأزق الحديث عن "كتلة تاريخية" تتبنى متطلبات الإصلاح في سياقين مختلفين ومتعارضين أصلاً. فالكتلة التاريخية هي أشبه بعملية تهجين لتصورات طوباوية غير ممكنة على أرض الواقع في العراق، لان ذلك بحاجة الى تحولات ثقافية واجتماعية تؤدي بالمحصلة الى تحولات سياسية في أعلى هرم السلطة، وهذا غير حاصل حاليا، وغير متوقع في المدى المنظور.
فالانقسام الأثنوطائفي في عراق ما بعد 2003 بات حقيقة راهنة لا يمكن القفز عليها بهذا الشكل من الابتسار والمصادرة، إلا ان الطموح يبقى مشروعاً لمنع ترسيخه قانونيا وسياسيا عبر رفض صيغ ومشاريع تؤدي الى ذلك.
أضف الى ذلك، لا يمكن لـ"الكتلة التاريخية"، كوصفة سحرية للاصلاح كما يسوقها أصحابها، ان تتجاوز "المحاصصة"، التعبير المنمق للانقسام العراقي، لأن الأخيرة نتيجة طبيعة لعقود من انعدام الثقة بين المكونات. فإنكار الواقع لا يقدم وصفة علاج ناجحة وناجعة في وقت تشتد الحاجة فيه الى معالجة هادئة لندوب استقرت في الجسد العراقي طيلة السنوات الماضية.
هكذا يتم الحديث عن "تحالف تاريخي" بين كتلتين متباينتين في الحجم والتأثير والأهداف، ويتم تجاهل حقائق الواقع التي تشكلت بفعل ظروف سياسية معقدة تمتد جذورها الى بدايات تشكيل الدولة العراقية الحديثة.. وبرغم ذلك، لم يقدم أقطاب هذا التحالف الافتراضي تصورات مقبولة، فضلا أنهم يسوقون الى فرض هذه التصورات من دون حوار وطني موسّع يضع المخاوف على طاولة النقاش العام.
إن ما يُطرح الآن من مشاريع للتغيير الجذري هي مشاريع تفتقر في جوهرها الى النضج الفكري والسياسي، وهي أقرب الى الانفعال والعاطفة منها الى الحكمة والعقل. والانفعال والارتجال لطالما كانا طريقا سالكة استثمرها المغامرون من قادة الانقلابات العسكرية التي يعاني العراق من نتائجها الكارثية منذ أكثر من نصف قرن. وبين الإصلاح والانقلاب بُعد المشرقين، فالأول يمهد له بتأصيل نظري ونضج اجتماعي، والثاني لن يحتاج سوى دبابة وبندقية وشباب مغامر. فلا يمكن معالجة المغامرة التي نعيشها منذ 2003، بمغامرة أخرى غير محسوبة العواقب!
لكن هذه الملاحظات، لا تعني بأي حال من الاحوال دعوة الى التصالح مع الشلل والفشل السياسي الذي تعيشه البلاد، بقدر ما هي إثارة وإشارة الى ضرورة عدم إرهاق الجسد العليل بعقاقير لا تحمل شهادة سلامة، وتحذير ايضا من خطورة اللجوء الى البتر قبل اختبار والممكنات المتاحة.
الكتلة التاريخية وممكنات الإصلاح
[post-views]
نشر في: 16 مارس, 2016: 09:01 م