TOP

جريدة المدى > عام > عن الفكر الفردي والواقعية السياسية

عن الفكر الفردي والواقعية السياسية

نشر في: 20 مارس, 2016: 12:01 ص

منذ ابتدأ القرن العشرون، بدأت حقول دراسات جديدة، هذه الحقول فروع تخصصية استكملت وضوحها وإن ظل انتماؤها إلى موضوعات أساسية أكبر، الحقول المستحدثة هذه اكتسبت تسمياتها وموضوعات بحوثها واضحة الجدة.وراء ذلك مستجدات الحياة واضطراب الحياة الحديثة بعد تباعد

منذ ابتدأ القرن العشرون، بدأت حقول دراسات جديدة، هذه الحقول فروع تخصصية استكملت وضوحها وإن ظل انتماؤها إلى موضوعات أساسية أكبر، الحقول المستحدثة هذه اكتسبت تسمياتها وموضوعات بحوثها واضحة الجدة.
وراء ذلك مستجدات الحياة واضطراب الحياة الحديثة بعد تباعد بقايا الطبيعية وقبلها الرعوية العالقة وانحسار الرومانسية ثم ظهور بدائل أو مدارس يمكن تسميتها بالانتقالية . من هذه، مثلا، السريالية والحركة الطليعية وبحوثها بين الحربين عن الأسرار الكامنة في "الدنيوي" .

لكن يبقى أهم منجز انتقالي حديث هو إنجاز هاري لوفير الفرنسي، الذي اعتمد الحياة الواقعية باباً للنظر في الاجتماعية الأكاديمية. هو حقق أول خطوة تالية إلى أمام بعد السريالية.
الحياة إذاً، هي التي صارت موضع الاهتمام في الدرس الثقافي الاكاديمي، بعد ما آلت إليه الكثير من النظريات والحركات السياسية والاجتماعية الصرف، ومن بين هذه الحركات، "النسوية" التي تطورت إلى حدود لم تكن متوقعة، مثل الحرية الجنسية وحرية الاجهاض والمطالبة اللبرالية فيها الى تغيير الانظمة الاجتماعية. وهنا صارت لها مهمة مضافة، هي المهمة السياسية وما عادت نسوية حسب، كما لم بعد ممكنا إيقافها عند الحدود التي تساهلت فيها القوى المحافظة، وذلك بسبب ترابطها باهتمامات أخرى، من خلال الارتباط بالراديكال اللبرالي وقوى اليسار.
صارت الآن مهدِّدة اجتماعياً وسياسيا، وما عادت تخص قيادات اللبرالية والماركسية والمسيحية. حاولت أجنحة ليبرالية الارتجاع المهذب بدعوى "الحياة الصرفة" وبها يكون الانتصار على البيولوجي، كما ارتأت أجنحة أخرى التأكيد على الأنا ego ومنها ما يسمى بالفرويدية ومنها أيضاً جناح أشبه بالمنشق عن الماركسي، باسقاطه صراع الطبقات، وهي مهادنة من نوع ما ..
هذا كله يقع خارج "الفرد" الذي تحدثنا عنه. في العام، في الجماعة، ما يزال هذا "الفرد" فرداً تحيط به نظريات وأنماط من الواقع. لم يجر الحديث عن الفرد ذاتاً، عاملاً كان أو مثقفاً محترفا أو شاغراً أو إنساناً يحس بأناه ومهموم بها. معنى هذا لم تكن الذات راسخة، لم تكن مقتنعة، لم تكن هي الشعار الأول، الشعار عن الجماعة، عن الحال الاجتماعي.
تعذرُ الفصل لا يمنعنا من الحديث عن الذات. الذوات بإزاء النظريات السياسية، الجماعات المدعوة لهدف، والماركسية وطروحاتها، الرأي الذي جرى عليه التأكيد في الدرس الغربي الحديث، أن الذات إما محكومة من الخارج، فهي مستلبة أو هي هشة أو متخلية عن الفرد نفسه. الذات في كل حال رقم أو منتج، أو هي فرد بالنسبة للمنظور الجماعي، هي منتقصة أو مستلبة الحاجات الشخصية جداً .
وهذه المنطقة الخطرة والمحفوفة بالشك وقلق النتاج، هي التي وظفتها "الحرب الباردة" توظيفاً لا علاقة له بالعلم ولا بطلب الحقيقة قدر ما كان توظيفاً سياسياً انتقاصيا من الفكر المضاد ومن الماركسية على التحديد. هي لم تواجه الدين بهذه الحجة علماً بأن الذات تكون هناك شبه ممحوّة، وفي أفضل أحوالها "عبدا" يبكي خشية أنه لم يكن مطيعاً طاعة تامة أو أنه لم يتخل عن أهوائه أو لم يهب روحه للإله العظيم مالك الكون!..
مما يؤسف له أن بعض المفكرين، اجتهاداً أو تكليفاً يعودون بنا إلى نوع من الهمجية الثقافية والمواقف أو الانحيازات التعصبية العمياء، نحن نريد سعادة الفرد، نريد تمتعه بفرصة عيشه وبأقصى مدى ممكن من التعبير عن نفسه. وعيشه ضمن جماعة وعيشه تحت ظل سلطة، أو أي مهيمن، يعني افتقاده لبعض من حريته، وقد يصل به ظرف لافتقاد جل حريته ولحد العبودية! هذا واقع الإنسان في الأرض.
لذلك يبدو مؤسفاً لحد ما، ما يثار من أن المفكرين الأفراد، تكون أفكارهم ثانوية أو تكميلية أو غير مرغوب بها في ظل الشمولي وهي غير فاعلة أمام الفكر المهيمن، والمقصود أصلاً، هو الماركسية، لماذا الخجل؟ وطبعاً هذا الاعتراض يشمل مبدعي الأدب والفن مثلما المرهفين من المثقفين، فضلاً عن المفكرين الفرديين.
نحن لا ننكر، في أي زمن، أن فكر الدولة الجماعي الذي يسير الحياة السياسية هو غير أفكار بعض الأفراد فيها. لكن ما يُلاحظ على مقولات مماثلة لهذا والتي كثرت وجرى عليها التاكيد في الحرب الباردة وما نزال نرى من يرددها اليوم بصورة أو بأخرى، أنها كتابات غير علمية وتفتقد البعد النقدي أو النقد التحليلي. العاطفي والافتراضي والمتخيل أكثر من العقلاني العلمي فيها. لا نظريات متكاملة تقابل النظريات الكبرى كالماركسية. ما نراه قراءات متفحصة أو ملاحظات، أو حماسات ذاتية، أو انتمائية أرضائية، النفعية ليست بعيدة عنها.
أما القول انه لم يعد للشعراء، للمفكرين رأي، أو هم ثانويون جدا، فأنا اسال : متى كان لهم رأي في ظل الملوك، الخلفاء، السلاطين؟ هم إما أتباع أو في الحبس! وهل كان لهم في ظل أولئك كلهم، وفي مختلف العصور، سوى آراء تخص حالاتهم النفسية وواقعهم الشخصي وما يتمنون؟ وهل غير هذا، اليوم، في أوربا والأمريكتين إذا استثنينا العاملين في العلوم الصرفة والمختبرات ونظريات الأدب والمجتمع ودراسات الظواهر الاجتماعية والأزمات، وهي موضوعات تخصصهم؟ هل غير النظر والتذمر أو اللعن والانتقاص اللفظي – ومثله ما كان يسمى الهجاء في الشعر العربي، مع فارق الزمن المتحضر؟ وبمباشرة أكثر : هل للشعراء ، الكتّاب عموماً وللفنانين والمفكرين دور مباشر وفعلي في القرار السياسي؟ هل يغير أحدهم تغييراً حاسماً وهل أحدث أحد منهم تحولا في العلاقة بين المنتج ورأس المال؟ ابداً! في كل العصور، الإنسان فاقد قراره المغير وهو تحت السلطة. هذه حقيقة لا يجوز اللعب بها لأغراض سياسية أو للانتقاص من نظرية أو فلسفة، سواء كانت الماركسية أو سواها، وإذا كان لاحد منهم دور مغير، فلا لأنه أديب أو أستاذ أو مثقف..، ولكن لفعله السياسي المباشر أو عمله ضمن مجموعات أو فرقاء السلطة والاحزاب بعض من ذلك! وهذا ما يجب الانتباه له، حتى المعارضة منها أحياناً! وثمة حقيقة لا نرغب بالاعتراف بها، هي أن أي هوية للفرد تقلل من فرديته لأنها تضعه ضمن جماعة مماثله!، ماذا فعل المفكرون الراديكاليون، وهم كتاب مهمون أيضا، أمثال فرانز فانون وجورج اورويل وفرناند اورتيز ومنهم صحفيون وشعراء ورسامون كبار؟ ليس سوى كتابات، سوى احتجاج، تنظيرات أُخرى. القرارات السياسية وإدارة شؤون الدولة وصناعة القوانين والرسوم والحروب... الخ، بيد السلطات! نقنع أنفسنا أحيانا بأن شعراء أو كتاباً أهاجوا الجماهير واحدثوا تغييراً. مثل ماذا؟ إيقاف معاهدة؟ تعوض بحلف أو بمعاهدة أخرى! خداع الشعوب وأساليب امتصاص غضب الجماهير كانت وما تزال، وهو ذلك ديدن السلطات الحاكمة.
الثقافة والفنون والأفكار (الفردية) لها فعل تنظيمي مساعد وفعل تنظيمي اجتماعي على التحديد! هو بعض من التربية الأخلاقية .. تنوير ونشر وعي في أقصى الممكن . لكن الكشف وحده لا يصنع تغييراً وإن غيّر مساراً إيهامياً أو آنيا. او تكتيكيا! الدولة اليوم كما الدولة من قبل، هي التي توجه شعوبها أو تعبث بهم بالاستهلاك التجاري وبنوع من الثقافة المشتراة. الجدل السياسي الذي يشغل الحياة اليومية لا يأتي من الثقافة الرفيعة ولا من الشعر والفن. هو جدل بين المنتج (والمنتج هنا السلطة من طبقة الرأسماليين) والمستهلك. باختصار شديد : العيش قبل القراءة!
فما هو بعد ذلك حضور الأنا في اللبرالية الغربية؟ وأين هي الفردية المهمل قرارها في الماركسية ومثيلاتها؟ ولماذا لا يكون التفكير بسعة إنسانية أوسع بعيدا عن التعصبات والانحيازات التي هي أقرب للتخلص منها للوعي والتقدم؟ الإنسان الفرد ممتَحَن في العيش طيلة العصور. وهو تحت السلطة، أو التسلط، في جميع العصور!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

فيلم "الحائط الرابع": القوة السامية للفن في زمن الحرب

"الشارقة للفنون" تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram