منذ أدرك أنه لا يجيد سوى الكلام تكلم، وكلما ضعف الجسد اشتد عود الكلمة.
لم يجمع من حياته سوى ما فاض من ألمه، من يمكنه جمع ألم فسيح جداً؟
كلُّ من أفتح عينيَّ لأراه يضع عصابة على عينيّ، بينما هو يراني واضحاً، بل عارياً، لأنني أكتب ضد الخوف.
كتبت قبل أن أكون جندياً إجبارياً في جيش الحكومة، وأعترف، الآن، بأنني كنت جباناً فلم أهرب.. خفت؟ نعم، أنا الخائف حتى اليوم، ليس من وزير الدفاع ولا من المنظمة الحزبية التي يرابط أفرادها، بلا مناسبة في ناصية شارعنا، بل ليس من السيد الرئيس نفسه، ولست خائفاً من الانضباط العسكري الذي كنت أحد أفراده، أيضاً: جاء ضابط كبير إلى معسكر الرشيد ليختار من الجنود المستجدين أكثرهم استقامة وانضباطاً وأتقنهم لقيافته العسكرية فاختارني، ولم أعرف إلى أين.. مثل أغنية في أوبريت للرحابنة غنت فيروز: "العسكري ما بيسأل".
كنت منضبطاً ومستقيماً وروحاً قلقاً تحت قيافة عسكرية متقنة، ليس لأنني جندي جيد بل لأنني كنت خائفاً.
خائفاً لا يملك سوى أن يحصّن نفسه ضد أي نقص في مظهره يمكن أن يعرضه لعقوبة عسكرية.. نعم، ثمة شيء من احترام النفس، لكن الخوف هو كل شيء.
ثم كتبت قصائد سرية في صندوقي الأسود عندما كنت جندياً.. لم أظهر تلك القصائد إلى العلن.. ولم أخبر عنها أقرب أصدقائي.. لأنني، ببساطة، خائف جداً.
كلما نودي باسمي ارتعشت خوفاً!.
شيوعي في جيش بعثي ، يُعدم كل من انتمى لحزب آخر غير حزب البعث، أو أخفى انتماءه السابق، أو عمل في تنظيم سياسي داخل الجيش غير التنظيم البعثي.. وهذا صدر بقانون موقّع من صدام حسين شخصياً.
وما أن نشر خبر تسريحنا من الجيش حتى خفت أكثر: هل سيكون بإمكاني التكيف مع حياتي المدنية من دون أن أكون جندياً مدنياً في حزب أو منظمة أو جماعة؟.
اعتقلت في أول يوم بعد تسريحي لأنني كنت أدخن في الشارع العام خلال شهر رمضان.. والتهمة إفطار علني في مكان عام!.
يا للدولة التافهة التي تعتقل مواطناً بسبب سيجارة خلال شهر رمضان.
هربت من مخفر الشرطة بحيلة (كتبت عنها من قبل) وهربي لم يكن بسبب شجاعة بل بسبب الخوف: الخوف من ضابط شرطة.
بقيت خائفاً على نفسي فأنا مواطن مسالم اكتفى بأحلام خطرة لا يعرفها أحد، لكنه دسّ أحلامه الخطرة في قصائد وكلمات على هامش القصائد، كي يحتال على خوفه، ليصبح الشعر المعادل المضاد للخوف.. الشعر بيت بعيد عن الأنظار والشعر وطن محصن بسور عال من الرموز والاستعارات، وإن كان الرقيب يقرأ ما بين السطور.
لم أزل خائفاً، حتى اليوم، رغم أنني أعيش في بلد لا يحمل فيه رجال الشرطة أي سلاح ناري.
لا فوبيا مرضية ولا وساوس بلا سبب.. وطني هو من أورثني كل هذا الخوف عندما يمتلك شرطي مرور الحق في أن يعتقلك حتى لو لم تكن تقود سيارة!.
فكيف لك أن لا تخاف، بل لا تشعر بالفزع، عندما يستخدم مسؤول أمني كبير، مثل ناظم كزار، منشاراً لتقطيع أوصال متهم؟
اليوم، بعد أن مرت دماء كثيرة، فوق الجسر وتحت الجسر، ما زلت خائفاً.
الجسر؟
خفت كثيراً عندما عبر المتظاهرون الجسر وعبر معهم "حصان طروادة".. وفي جوفه إغريق بعمائم سود ورايات سود وعقول سود.
خائف لأنني لا أثق بأي "سيد" زعيم أو بطل مرحلة ملتبسة.
لست أثق حتى بـ"السيد" كارل ماركس لأنه ضد "الثقة".. هو من أوائل من اشترط السجال والسؤال.. الثقة أخطر أشكال الإيمان.
لهذا أنا خائف!.
في مديح الخوف
[post-views]
نشر في: 21 مارس, 2016: 06:01 م