وقلت لك: هنا، كانت المدرسة، ببابها الأبيض المشبّك الحديد، وهناك، تحت السدرة البمباوية، كان دكان الحاج غلوم، ومن هنا كنا نعبر الى بيت ملا يعقوب الحطاب، وتحت تلك النخلة الحساوية جلس أبوك ويوسف المرزوق وعبد الله أبو نورية واتفقوا على ان تكون حصتكم من الأرض سبعة دونمات، وعند مفترق الماء الذي يفصل الشاهينية عن أم الجبابي، وقفنا أنا وأنت وابن الحاج معتوق، لا أتذكر اسمه الآن، نتحدث عن موسم الصبور القادم وعن سلال العنب التي كنا نروم تسويقها الى البصرة... لكنني وجدتك مطرقاً، تنظر الى مندفق الماء ، عبر قناة الأرامكو المضلع، وهو يعبر مسرعاً هادراً، تبحث في الجرف السبخي الذي ظل ينهار تباعاً، عن أصل كرمة زرعتها، كأنك لا تريد الاجابة على أسئلتي.
أمس، ومنذ الصباح الأول، في عيد النوروز حمّل أبو داوود، سلمان النويني عائلته كلها، بنين وبنات، أسباطه وأحفاده في سيارتهم الكوستر، ومن شقق الوينبي، بالأصمعي، وسط المدينة جاء بهم الى هنا، إلى المطوعة، حيث كانوا قبل نحو من أربعين سنة، وبيده العاطلة، كان يشير الى قطعة الأرض المقطعة الأوصال، إلى حدودها التي لم تعد معلومة، فقد انهارت جدران البيوت، لم يبق منها شيئاً، وضاعت علينا حدود المدرسة، لكنه تأكد من بقايا أسياخ الحديد التي أكلها الملح، فقال متوسطاً بابها، الذي كان: من هنا كنا ندخل. تتعقبنا عصا المدير، نحن المتأخرين. كنت أسمع لغط النساء العجائز، وهن يتحدثن عن النهر هذا والنخلة تلك والسدرة الملاسيّة وشجرة الهنبه، عن خرائط وامكنة وأشجار لم يبق الزمن منها شيئاً. كانت الحرب قد أتت على كل شيء.
في مثل مناسبة النوروز هذه، يذهب أهل السيبة والقرى المحيطة بها، جنوبي ابي الخصيب إلى مساكنهم التي كانت هنا ذات يوم، يسحبون أعمارهم بسياراتهم التي يملؤونها بما يحتاجون من فرش وأشربة وطعام إلى حيث البساتين المهجورة، الى المنازل التي ضاعت معالمها، الى الأنهار التي يتعجلها المدّ، إلى الأراضي التي كانت حقولا للألغام وأعشب الحديد والموت فيها طويلاً. في سفر غريب من نوعه، إذ كيف يتفقد أحدٌ منزله الذي غادره قبل أكثر من ربع قرن، ثم أنه حين ضيّعه صار يتذكره، وراح يبحث في البرك وبين اشجار الغرب والطرفة عن غرفاته، يرسم حائطاً هنا ويخط باباً هناك ويقترح مدخلاً ويفلح حديقة ويعبر قنطرة، كيف تتأسس معالمُ لم يبق منها سوى أخيلة التذكر، واحتمالات الوجود؟ وكيف يقترح على الريح شكل الغصن الذي كان يميس، صوت البلبل الذي كان يغرد، أمواج النهر وهي تصطدم وتتفتت عند جذوع شريعة كانت تغطيها أزهار الدفلى وتنبش سرّة طحالبها أسماك وضفادع.
أجيال ثلاثة حملتهم سيارة الكوستر الكبيرة الى قرية الشاهينية. جيل الأجداد الذين ولدوا على الأرض هذه، وتربوا وعاشوا وعملوا هنا، ثم تركوا كل شيء أخضَر يانعا معشوشبا مفعما بالحياة مع احتمال العودة اليها. وجيل الأبناء الذين ولدوا وعاشوا شطراً قصيراً من اعمارهم هنا، ثم غادروها وسكنوا المدينة ضجيجها وزحمة طرقاتها وفضاضة ناسها ثم ألفوا ذلك كله، الغرف الضيقة، نصف المضاءة، بنصف أمل للعودة ثانية اليها، أما الجيل الأخير، جيل الأحفاد، هؤلاء الذين لا شان لهم بما في المكان هذا، فهو، مكان للنزهة لا غير، مكان يقصدونه للترويح، لا للتذكر. ولا حاجة لهم فيه، فما هم والأمل وما الأنهار والجداول والنخل المقطوع وسياخ الحديد التي أكلها الملح سوى ما يشاهده أجدادهم، هم لا يرون في الخريطة المبعثرة هذه سوى مكان موحش مقفر ببرك تتجول فيه جواميس المعدان، ويقصده أبناء المدينة، ممن يجدون فيه الفسحة المنتزعة من اليأس.
لا، أبداً، صعبٌ عليَّ وعليكَ ما نشاهده، حتى وإن كنّا نشاهده مرة كل عام، لم تعد الحياة ممكنة هنا، وإن زرعوا ما زرعوا، وإن ردموا من البرك ما ردموا. دعك من التذكر واقتراح الآمال "الحياة في مكان آخر .." هكذا، كما يقول كونديرا.
بمناسبة النوروز في بساتين البصرة "الحياة في مكان آخر"
[post-views]
نشر في: 22 مارس, 2016: 09:01 م