خرجت من محطة المترو لأشق طريقي وسط البنايات العالية وكأنني أمشي وسط شارع من شوارع الخيال العلمي، أكمل طريقي وسط هذه الشوارع المستقبلية الجميلة في طريقي الى متحف دبي القديمة، متحف يعيدني الى الحياة البسيطة في دبي قبل هذا التطور المدهش، وقبل أن يمسك أبناء دبي بالمستقبل ويثبتونه هنا والى الأبد، في هذه المدينة النادرة والجميلة والفريدة. حاولت أن أتبين وسط الزحام اشارة أو يافطة تشير الى المتحف فلم أستطع ذلك، عندها سألت شخصاً عابراً أجابني بانجليزية ذات لكنة آسيوية، وأشار الى يمين المسجد الكبير الذي ظهر من بعيد بلونه البنّي الفاتح ومنارته الزرقاء. أكملت طريقي بسرعة حيث بدا المتحف يقترب مني كلما أسرعتْ خطواتي باتجاهه. بعد قليل وجدت نفسي أقف أمام بوابته الرئيسية المصنوعة من خشب الساج، وقد بانت على سطحها مطارق نحاسية، نقشت عليها بعض الكتابات العربية.
لقد كان هذا البناء عبارة عن حصن (حصن الفهيدي) وقد حولته بلدية مدينة دبي الى متحف بعد أن انتهت من ترميمه سنة 1994 في خطوة للحفاظ على بعض المعالم التاريخية للمدينة الى جانب العمران الحديث الذي بدأ ينمو مثل أشجار باسقة في المدينة. يعتير هذا الحصن أقدم المباني في دبي وقد شُيد من الصخور البحرية سنة 1800 ويتألف من غرف عديدة تلتف حول فناء الحصن، وثلاثة أبراج عالية تضمن الدفاع عن المدينة. في مدخل المتحف وضعت مجموعة من المراكب في ساحة مكشوفة، تعيدنا الى الأيام الخوالي حيث كانت هذه المراكب تشكل أساس العمل والحياة والديمومة لهذه المدينة التي تقع على الساحل. فهنا قارب (السنبوك) الذي كان يستعمل لصيد السمك، وعلى بعد خطوات منه يطل قارب (البانوش) الذي كان ينتقل الركاب بواسطته من مكان الى آخر، وفي الجهة المقابلة وُضع قارب (البقارة) الذي يشبه سمكة غريبة الشكل، وقد كان يستعمل للغوص والبحث عن اللؤلؤ حين كان الغواصون يحتفلون بخروجهم سالمين أكثر من احتفالهم بحصولهم على اللؤلؤ الثمين. أتنقل بعدها بين بعض البيوت الصغيرة التي أعيد بناؤها لتحاكي البيوت التي كان يستعملها الناس في تلك السنوات البعيدة على ضفاف الخليج، فتطل خيمة يدخل في صناعتها سعف النخيل لتكون باردة في الصيف ودافئة في الشتاء، ثم أجد نفسي داخل (العريش) وهو البيت الصيفي الذي يدخل في تكوينه قماش الخيش، وهنا أتخيل الحياة التي كانت، وأتقاسم مع أهلها هذا المكان الذي يملأه ضوء الشمس ونسمات الخليج وصوت أغاني البحر والبساطة التي هي سر جمال الأشياء والحياة معاً. أعبر الباحة الكبيرة للمتحف لأصل الى الجانب الأيسر وأحلُّ في ممر طويل عرضت فيه بعض معالم الفنون الشعبية التي كانت شائعة، وكذلك عرضت مجموعة من الآلات الموسيقية التي تعود الى تلك الأيام البسيطة الماضية، وهذه الآلات مصنوعة في الغالب من الخشب وجلود الماعز وبحجوم وأغراض مختلفة، وأكثر ما أثارني في هذه الآلات هي آلة (الطنبورة) المدهشة في شكلها وتكوينها المبتكر وألوانها وتفاصيلها الفريدة، وهي مصنوعة من جلد الغزال والخشب وبعض الأقمشة الملونة، شكلها عمل فني مكتمل حتى من دون أن نسمع موسيقاها.
دخلت في ممر ضيق لأصل الى فسحة معتمة تضاء بإضاءة خاصة حيث ظهر لي مايشبه قرية صغيرة مليئة بمنحوتات لأشخاص وُضِعوا بطريقة مسرحية وهم يمثلون الحياة بكل تفاصيلها في دبي القديمة بأزيائهم وأدواتهم وكل ما كان يحيطهم من حيوانات وحياة ومؤثرات ومتطلبات معيشة.
بضع ساعات قضيتها هنا في هذا المتحف الذي لا يشبه باقي المتاحف حيث يشع ضوء الماضي وعطر براءة تلك الأيام التي اختلطت فيها الفروسية مع رمال الصحراء. أخرج من المتحف تملأ رأسي نغمات شواطئ الخليج وأغاني الباحثين عن اللؤلؤ وأتوجه الى مطعم  صيفي على ضفة خور دبي لأطلب صحناً كبيراً من سمك السلمون وأنا أتأمل المراكب وأنظر الى منطقة (الديرة) في الجهة الأخرى لأغيب وسط  لون الشاطئ وطعم السمك وروح المدينة التي احببتها بعمق.